مختارات اقتصادية

كيف يصبح الخوف من الخسارة في سوق الأسهم مضيعة للمال وبعثرة للجهد؟

تشير نظرية الاحتمالات prospect theory والتي توصّف لنموذج سلوكي عن كيفية اختيار الأفراد بين بدائل مختلفة تنطوي على مخاطر، والتي تعرف أيضا بنظرية «كراهية الخسارة» loss-aversion theory وتشير إلى أن البشر يميلون إلى تفضيل اليقين على الاحتمالات، وأن الغالبية سيفضلون الحصول على مكسب مؤكد وإن كان محدوداً في مقابل الحصول على نسبة للحصول على مكسب أو تكبد خسارة.
على سبيل المثال، افترض أن لديك خيارًا بين الحصول على 50 ريالاً واحتمال فوزك بنسبة 50٪ بمبلغ 100 ريال، سيأخذ معظم الأشخاص مبلغ 50 ريالاً، على الرغم من أن القيمة المتوقعة إحصائيًا للخيارين هي نفسها تمامًا.
ميل أقل للمخاطرة:- ويشير هذا بصفة خاصة إلى نزوع غالبية الناس إلى الاستثمار قليل المخاطرة للغاية، مثل شراء العقارات والذهب والعملات الأجنبية (في الدول النامية) مع تركيز غالبية المستثمرين عند التوجه لإقامة مشروع ما على أن فرص خسارته صغيرة، وليس على أن فرص تحقيقه للمكسب الكبير جيدة، غير أن ذلك يختلف وفقًا للأشخاص من جهة حتى بين الدول.
وبناء على ذلك تكشف دراسة أمريكية لـ»جالوب» أن السوق الأمريكية بها حوالي 150 مليون مستثمر أمريكي (من أصل تعداد سكان 330 مليون شخص)، أي بنسبة 45% من السكان تقربيًا وهو ما يفرض حالة من الحركية الكبيرة في السوق حتى مع مراعاة أن أكثر من 60% من هذه الحسابات تكون «خاملة» ولا تشهد حركة بيع وشراء تقريبًا
فحوالي 50% من هؤلاء المستثمرين لا يمتلكون إلا 0.6% فحسب من الأسهم الأمريكية، ويركزون على الاستثمارات الأخرى أو تعوزهم الأموال للمزيد من التوسع في الاستثمار في سوق الأسهم، أو حتى يبقوا على بعض الأسهم كحيازات «رمزية» وليست استثمارًا واقعيًا.
وفي المقابل فإنه في دولة مثل الهند فإن نسبة المستثمرين في سوق الأسهم لا تتعدى 3% فحسب من السكان، ولا يرجع ذلك للتركز في توزيع الثروات في الهند فحسب ولكن للنظر المستمر لأشكال الاستثمار الأكثر تحفظا مثل المعادن الثمينة والعقارات على أنها الأكثر أمانًا.
تجاهل الاحتمالات المنخفضة:- وتؤكد نظرية الاحتمالية أيضًا أن الناس يقللون (أو يتجاهلون) النتائج ذات الاحتمالية المنخفضة، وفي المقابل يميلون أيضًا إلى المبالغة في تقدير وقوع الأحداث ذات احتمالات الحدوث الأعلى، مما يؤدي إلى تحيز يتجاهل النتائج غير المحتملة.
وارتباطًا بهذا، تقدر دراسة على سوق الأسهم وتأثرها بمفهوم الاحتمالات و»كراهية الخسارة» أن أكثر من 70% من المتعاملين في سوق الأسهم يسعون وراء الـ100% مكسب أو ما يقاربها، وذلك على الرغم من أن تحليلاتهم لا تكون دقيقة وبالتالي قد يرون مكسبًا محققًا في شراء سهم ما ولا يحققون غرضهم بسبب سوء التحليل، الأساسي أو الفني. وإذا رأى مستثمر ما أن دراسته لوضع سهم تشير إلى أن نسب صعوده ولتكن 10% ولكنها إذا تحققت سيكون صعودا كبيرًا فإنه لا يقوم بالاستثمار فيه غالبا، لأن المتعاملين في السوق الأسهم غالبًا ما يرون النسب القليلة، والتي تقل عن 60% في غالبية الحالات بمثابة حكم مُسبق بالفشل على استثماراتهم.
ويتعارض هذا المفهوم «ظاهريًا» مع خسارة غالبية المتعاملين في سوق الأسهم لأموالهم، ولكن في الواقع فإنه لا تعارض بين الأمرين فكراهية الخسارة مثبتة بالتجارب ولكن الاعتماد على «الحدس» وقلة خبرة المستثمر كثيرًا ما تقوده إلى ما يسعى لتجنبه مباشرة.
ومع عدم تخطي من يهزمون سوق الأسهم 1-2% وعدم تخطي من يحققون أرباحا في السوق نسبة 8-10% فإنه لا شك أن تلك النسبة الأولى وبدرجة أقل النسبة الثانية يقدرون ما لا يقدره الآخرون أو يرون الاحتمالات التي يراها آخرون أقل ويعتمدون أنها الأقرب للتحقق في ظل المعطيات الحالية.
التنويع لتفادي الفشل:- والشاهد أنه كثيرًا ما تقود كراهية الخسارة المستثمر إلى اللجوء إلى المبالغة في تنويع استثماراته، سعيًا وراء تجنب «الفشل الكامل»، بحيث يحقق سهم نجاحاً إذا أخفق آخر، وبهذا يحقق قدراً من التوازن المالي، وهذا أمر مشكوك في حدوثه بهذه الطريقة، والنفسي أيضًا بتجنب شعوره بـ»الفشل».
فالمتداولون الناجحون في سوق الأسهم لا يفعلون ذلك، وعلى سبيل المثال فإن شركة «بيركشاير هاثاواي» تستثمر 44.7% من رؤوس أموالها البالغة مع بداية شهر مايو 2023 ما يناهز 347 مليار دولار في شركة واحدة وهي «أبل»، بينما تستثمر 8.5% في مؤسسة أخرى وهي «بنك أوف أمريكا».
بل والشاهد أن «بيركشاير هاثاواي» بدأت تنقل بعض استثماراتها تدريجيًا إلى القطاع النفطي في الوقت الذي رفعت نسبة استثماراتها في «شيفرون» إلى 8.1% من إجمالي استثماراتها وفي «أوكسيدينتال بترولويم» إلى 3.8%، وسط تحريك بطيء للاستثمارات إلى هذا القطاع.
وبالإجمالي فإن الشركة العملاقة في إدارة الأصول تستثمر قرابة 90% من أصولها في 11 شركة فحسب، وتكتفي بامتلاك نسب أصغر في شركات قد تكون واعدة مثل «بي. واي.دي» والتي يمنع الشركة من التوسع في الاستثمار فيها المخاوف الجيوسياسية والتوترات بين الولايات المتحدة والصين. وبسبب «الصبر» على بعض الأسهم على سبيل المثال سجلت الشركة بداية شهر مايو زيادة في الأرباح التشغيلية بعد تسجيل شركة التأمين على السيارات «جيكو»، والتي تمتلك «بيركشاير هاثاواي» أسهماً فيها، أرباحا بعد خسائر على مدى ستة فصول.
فالشاهد في هذه الحالة أن هناك قراراً تم اتخاذه بالاستثمار في هذه الشركة، وعلى الرغم من تحقيقها نتائج سلبية على مدى عام ونصف إلا أن «بيركشاير هاثاواي» أبقت على حيازاتها فيها، نظرًا للثقة في التحليل الذي تم بناء عليه اتخاذ قرار الاستثمار.
وهنا يمكن القول إن الشركة تلافت الخسائر من خلال تجنب انحياز كراهية الخسائر والذي يؤدي بكثير من المستثمرين إلى البيع طالما المنحنى ينخفض وإلى الاحتفاظ طالما المنحنى يرتفع، دون حساب للاتجاهات المستقبلية لهذا المنحنى.
كما أن كراهية الخسارة، أو الخوف من الاحتمالات، قد تؤدي بالشخص إلى التصرف خلافًا لـ»بيركشاير هاثاواي» بالتنوع المبالغ فيه، بينما يقول مؤسس الشركة «وارين بافيت» أن التنوع الكبير ليس تحسباً ضد السوق أو انقلاباته لكنه تحسب ضد «جهل» المتداول نفسه.
وتشير دراسة إلى أن هؤلاء الذين يتخوفون من الخسارة بشدة أو يسعون إلى السيطرة على الاحتمالات ويستهدفون استثمارات ناجحة بنسبة 100% أو القريبة منها غالبًا ما يقضون أوقاتًا أطول في محاولة الوصول لأفضل الأسهم، ولكنهم عادة لا يفعلون ذلك بالطريقة الصحيحة، بما يجعلهم يضيعون الوقت والجهد ولاحقًا المال.
وفي هذا الإطار يقول «دان إيجن» خبير الاقتصاد السلوكي إن الناس لم تتطور بحيث تستطيع التعامل مع الأسواق، ولكن بحيث تتعامل مع التهديدات الطبيعية، ولذلك فإن التعامل مع الأسواق يحتاج جهدا واعيا وعقلا منظما لتفادي التحيزات وعلى رأسها الخوف الطبيعي أو الكراهية الطبيعية للخسارة. والشاهد أنه في سوق الأسهم كثيرًا ما تقود كراهية الخسارة ـ وهي منطقية غير أن القبول باحتماليتها واجب أيضًا- المتداولين إلى تكبد الخسائر بل وتقودهم أيضًا إلى ضياع الجهد، بينما الواجب القبول بمنطق «غُنم بغرم» أي باحتمالات المكسب والخسارة، والسعي بالتحليل الجيد للاقتراب من الأول والابتعاد عن الثاني.
المصادر: أرقام- دراسة «Prospect Theory and Stock Market Anomalies»- فوربس- واشنطن بوست- سي.إن.بي.سي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى