اقتصاد دولي

لن أصدق أن سويسرا تغسل أموالها إلا عندما أراها بأم عيني

حسناً، إنه لتحول مهم. كان عنوان الخبر الرئيس المثير يقول “سويسرا تكشف النقاب عن حملة على الأموال القذرة لإصلاح صورتها”.

يبدو أن البلد الجبلي الصغير يمهد الطريق لإجبار “المالكين المستفيدين النهائيين” من الصناديق الائتمانية والشركات على الكشف عن هوياتهم.

وقالت وزيرة المالية السويسرية كارين كيلر سوتر “إن وجود نظام قوي للحماية من الجريمة المالية أمر ضروري لسمعة مركز مالي مهم وآمن يتطلع إلى المستقبل على الصعيد الدولي ولنجاحه الدائم”.

هذا صحيح بالتأكيد، ولكن هذه هي الحال التي كانت عليها بقية دول العالم لوقت طويل. في الواقع، سويسرا هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي ليس فيها سجل ملكية مفيد.

في إطار السعي إلى مزيد من الشفافية والمحاولات المنسقة للقضاء على تمويل الإرهاب الدولي، ظلت سويسرا خارج السرب. وهذه ليست بالمفاجأة، فهي بلد نما وازدهر بنحو مذهل من تجارة السرية، ليس فقط في الآونة الأخيرة، ولكن منذ القرن الـ18.

فالكتمان يسري في عروق السويسريين، وهو متجذر في التركيبة السويسرية. ولتجنب الشك فإن القانون ينص على ما يلي: الكشف عن بيانات العميل ليس فقط مخالفة تستوجب الإقالة، بل جريمة جنائية يعاقب عليها بالسجن لمدة تصل إلى خمس سنوات، حتى لو كان ذلك في الصالح العام. كانت هناك أربع قضايا حديثة للمبلغين عن المخالفات، وفي كل واحدة منها لوحق المسرب من خلال المحاكم، وعوقب.

ويتمتع المصرفيون السويسريون بالحصانة من الملاحقة القضائية الأجنبية وتسليم المتهمين. وهم على غرار الكهنة والأطباء يتبعون شيفرة مماثلة لشيفرة “أوميرتا” [تعبر أوميرتا عن مفهوم يعود للثقافة الصقلية، وتعني الصمت أو طواعية الصمت].

وفقاً لأحدث إحصاء لجمعية المصرفيين السويسريين أجري في عام 2018، بلغت ملكية أعضائها 6.5 تريليون دولار (5.1 تريليون جنيه استرليني) من الأصول الأجنبية، أو 25 في المئة من جميع الأصول العابرة للحدود في العالم. هذا في دولة يبلغ عدد سكانها 8.7 مليون نسمة.

ويحتفظ بكثير من هذا الرقم المهول في حسابات مرقمة لا يعرف هويات أصحابها سوى البنوك التي أودعتها. في كثير من الأحيان، يعطى العميل اسماً رمزياً لإضافة مستوى آخر من السرية. وهذه ليست سوى الحسابات، إذ تحتفظ البنوك السويسرية بخزائن تخضع لحراسة مشددة ومخابئ تحت الأرض تخزن سبائك الذهب والودائع الأخرى.

وتحتل سويسرا المرتبة الأولى بلا منازع في الملاذات البحرية المشكوك في أمرها، ومع ذلك، فهي أكثر من مجرد متلق لثروات الآخرين، والخبراء السويسريون بارعون في إخفاء الثروة عن السلطات الضريبية وجهات إنفاذ القانون والدائنين والمتخصصين في استرداد الأصول وأي أحد لديه سبب مشروع للعثور على المالك الحقيقي لشيء ما، لدرجة أنهم حولوا هذه الممارسة إلى مورد رئيس للتصدير. وتوفر الشركات السويسرية الخبرة في إنشاء الصناديق الائتمانية والملاذات الضريبية في جميع أنحاء العالم، في مراكز خارجية أخرى.

وعلى مرّ العصور، استفاد الحكام الفاسدون والطغاة ورجال العصابات والمراوغون الضريبيون من عبقرية سويسرا الغريبة، وخلال الحرب العالمية الثانية وفرت سويسرا التي التزمت الحياد الصارم ملاذاً للأموال والأصول المملوكة لليهود الأثرياء، لكنها في الوقت نفسه وفرت ملاذاً للذهب الذي نهبه النازيون.

ومن بين العملاء الحاليين زعماء الجريمة المنظمة والأوليغارش، ومنذ الهجوم الروسي على أوكرانيا، أجازت العقوبات إخضاع الأوليغارش وأفراد أسرهم وشركائهم للعقوبات، وهذا يشمل سويسرا نظرياً، لكنهم تمكنوا في سويسرا من استغلال الثغرات ومواصلة العمل المصرفي. ويقال إن من بينهم مقربين من دائرة فلاديمير بوتين، وحتى الرئيس الروسي نفسه.

وتحبذ العاصمة الإدارية السويسرية برن زعم أنها تتحكم تحكماً ملائماً في حركة الأموال داخل حدودها، وكان قادة “مجموعة السبع” غاضبين جداً من القدرة العريقة على غض الطرف لدرجة أنه، في أبريل (نيسان)، أرسل سفراؤهم في برن رسالة مشتركة ينتقدون فيها الحكومة السويسرية ويتهمون محامي البلاد بتعمد التهرب من الحظر المفروض عليهم.

لن يكون السجل الجديد لمالكي جميع الشركات والصناديق الائتمانية الذي أنشئ في البلاد متاحاً للعموم، لكنه سيكون متاحاً للجهات التنظيمية والحكومات والشرطة والبنوك والمحامين المعتمدين، وفي الوقت نفسه، سيكون المحامون والمحاسبون السويسريون وغيرهم من المتخصصين في التعتيم المالي ملزمين بإجراء العناية الواجبة على موكليهم، وسيطلب منهم الاحتفاظ بسجلات الشيكات ووجوب إبلاغ السلطات عندما يشتبهون في أنشطة غسيل أموال.

هذا في ظاهره تطور ملحوظ، وإذا جرت متابعتها، فإن كمية المعلومات التي ترسل المسؤولين ستكون سيلاً حقيقياً، ولن يتمكنوا من مواكبتها.

وهذا هو السبب الذي يجعل من الصعب تصور حدوث الأمر على الإطلاق، ليس بالشكل الصحيح، بل وفق ما هو متوخى من السجل على أي حال. تعمل سويسرا بنظام سياسي توافقي يستوجب موافقة الجميع، وإلا فلن يكون هناك احتمال كبير لأن يصبح منصوصاً عليه في القانون. لذلك، يجب على جميع الأحزاب السياسية والحكومات المحلية والكانتونات والمجموعات المدنية، بما في ذلك مختلف الجمعيات المصرفية والمحامون، المشاركة في الخطة، وبعد إعلان كارين كيلر سوتر، بدأت هذه المشاورات الآن، ومن المقرر أن تستمر ثلاثة أشهر.

وسيكون من المثير للاهتمام معرفة الشكل الذي ستكون عليه الإصلاحات بمجرد الانتهاء من هذه العملية، وبشكل أكثر وضوحاً، كيف ستطبق في الممارسة العملية؟ إذا كان لنا أن نستهدي بالثقافة والتاريخ، فلن يكون علينا توقع الكثير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى