مقالات اقتصادية

لغز يحير العقول: انتعاش اقتصادي رغم التشديد النقدي

كتب أسامة صالح

كان من المفترض أن يكون تباطؤ التضخم علامةً على تراجع الوتيرة القوية لنمو الاقتصاد، وهذا كله جزء من خطة بنك الاحتياطي الفيدرالي لرفع أسعار الفائدة لاستعادة التوازن الاقتصادي. بدت الأمور وكأنها تسير في مسار صحيح لبعض الوقت. لكن منذ منتصف يناير، خرجت آراء تفيد بأن النشاط الاقتصادي ينتعش مجدداً، رغم أن السياسة النقدية أصبحت عند أكثر مستوياتها تشديداً منذ سنوات.

الدافع وراء ذلك هو الثقة المتزايدة بين المستهلكين والشركات على حد سواء، والتي من المفارقات أنها مدفوعة بتباطؤ التضخم الذي يعمل الاحتياطي الفيدرالي جاهداً على تحقيقه. ولا يزال هناك تشديد في السياسة النقدية-ويمكن ملاحظة ذلك عبر المصاعب التي يمر بها قطاعا السيارات والعقارات التجارية أو التحديات التي يواجهها المواطنون في أثناء شراء المنازل- لكن العديد من الصناعات تظهر حالياً علامات على القوة أو التسارع إيماناً بأن موقف البنك المركزي لن يسبب انهيار سوق العمل أو تداعي الاقتصاد.

قرائي المعتادون سيلاحظون أن هذا تراجعاً عن قناعاتي خلال الأشهر القليلة الماضية. فقد بدأت أشعر بالقلق إزاء ركود سوق العمل في أوائل نوفمبر مع ارتفاع معدلات البطالة وتباطؤ نمو دخل العمال. وفي بدايات فبراير الماضي، وصفت تعافي بعض القطاعات الدورية للاقتصاد بأنه أشبه بـ”قفزة القط الميت”، أو الانتعاش المؤقت الذي ستقضي عليه في النهاية أسعار الفائدة المرتفعة، ومن المنطقي أن ترتفع أشياء مثل مبيعات المنازل القائمة في وقت كانت فيه المعاملات عند أدنى مستوياتها منذ 2010.

لكننا حصلنا على أدلة أكثر خلال الأسابيع القليلة الماضية، خاصة من تحديثات أرباح الشركات، حيث أبلغ المسؤولون التنفيذيون عن مرونة أو قوة أعمالهم وأظهروا مزيداً من الثقة في المستقبل.

الأمور آخذة في التحسن

ربما لم يُقدم أحد نظرةً شاملةً عن معنويات المستهلكين أفضل من جون ديفيد ريني، المدير المالي لشركة “وول مارت“، عندما قال: “كان هناك إجماع كبير على أننا سندخل في حالة ركود العام الماضي، لكننا تجنبنا ذلك لحسن الحظ. لذلك، أعتقد بشكل عام أننا نشعر بتحسن طفيف في وضع الاقتصاد حالياً”.

بعد خفض المخزونات بأزيد من 15% على أساس سنوي، وهي نسبة أكثر من أي وقت مضى، قال تيد ديكر، الرئيس التنفيذي لشركة “هوم ديبوت” (Home Depot)، “نشعر براحة تامة تجاه وضع مخزوننا مع اقتراب 2024″، في إشارة إلى أن الأسوأ قد انتهى بالنسبة للمصانع التي ظلت تشكو من تراجع الطلبيات الجديدة لأكثر من عام.

أوضحت شركة بناء المنازل الفاخرة “تول براذرز” (Toll Brothers) أن الطلب على المنازل خلال فبراير المنصرم كان الأعلى منذ عامين، مما يظهر أن فئة معينة من المشترين لا تزال قادرة على تحمل معدلات الرهن العقاري التي تزيد عن 7%.

أكدت شركة “إنفيديا” مجدداً مكانتها المميزة بسوق الأوراق المالية، وعلى الثقة في طفرة الذكاء الاصطناعي عندما تجاوزت توقعات الأرباح مرة أخرى.

هذه الشركات الأربع توفر لنا رؤية جيدة عن وضع الاستهلاك واقتصاد السلع وسوق الإسكان والإنفاق على قطاع التكنولوجيا الذي يعد مجال النمو الرئيسي، وهي مجتمعة تشكل نصيب الأسد من النشاط الاقتصادي. وجميعها أبلغ عن درجات متفاوتة من الثقة المتزايدة، سواء بسبب خفض مستويات المخزون وتجاوز 2023 الصعب، أو التفاؤل التام إزاء 2024.

لاحظ تورستن سلوك، كبير الاقتصاديين بشركة “أبولو غلوبال مانجمنت” (Apollo Global Management)، أن ارتفاع الثقة بين المستهلكين بدأ عندما تحول الاحتياطي الفيدرالي عن ميله لرفع أسعار الفائدة في منتصف ديسمبر. فقد بدأت أسواق المال تتوقع هذا التحول في نهاية أكتوبر، ونحن نسمع عنه الآن من الرؤساء التنفيذيين حينما يتحدثون عن وضع أعمالهم وخططهم لعام 2024.

سياسة نقدية تقييدية

هذا الأمر يشكل معضلة بالنسبة لمسؤولي الاحتياطي الفيدرالي عندما يفكرون في توقيت تيسير السياسة النقدية وحجمه هذا العام. فهم يعتقدون أن السياسة النقدية تقييدية وتزداد تقييداً مع كل شهر يتباطأ فيه التضخم. في الوقت نفسه، تعتبر الأسواق والمستهلكون والشركات أن تباطؤ الزيادات في الأسعار تعني انخفاض فرص حدوث ركود، واقتراب قرارات خفض أسعار الفائدة، مما يدفعهم إلى المزايدة على ارتفاع الأسهم وإنفاق أموال أكثر وربما التحول من وضعية خفض التكاليف إلى أخرى تركز على النمو.

ومن آليات العمل الجيدة للاحتياطي الفيدرالي هي أنه إذا انتهى به الأمر إلى تأخير قرار خفض أسعار الفائدة مخيباً توقعات السوق، فربما يكون ذلك بسبب النمو الاقتصادي السريع للغاية واحتمال حدوث تضخم أسرع وليس جراء بيانات التضخم الفعلية المرتفعة للغاية المسجلة في 2022 و2023. وبمجرد تباطؤ النمو الاقتصادي، مثلما تستمر التوقعات، فإن صُناع السياسات سيكون لديهم مجال كبير لخفض أسعار الفائدة، مما يوفر دعماً فورياً لقطاعات الاقتصاد التي تتأثر بشدة بتغير أسعار الفائدة مثل الإسكان والسيارات.

واقع تكاليف الاقتراض

هناك جدل بشأن مدى قدرة الثقة المتزايدة على تعزيز النمو الاقتصادي في وقت تكون فيه أسعار الفائدة المعدلة حسب التضخم أعلى بكثير مما كانت عليه خلال الـ15 عاماً الماضية. ومن الممكن تماماً أن يصطدم التعافي في القطاعات الدورية للاقتصاد التي تواجه مصاعب والأجواء الإيجابية بالواقع الصعب لتكاليف الاقتراض التي تظل عند أعلى مستوياتها على مدى أجيال. وربما تؤدي عمليات البيع المعتادة في سوق الأسهم إلى إضعاف الثقة مع تيسير السياسة النقدية الذي تواصل الأسواق توقعه. لكن إذا استمرت المعنويات في التعافي، فقد يصبح النمو الأسرع من المتوقع هو موضع التركيز في 2024، وليس خفض أسعار الفائدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى