مختارات اقتصادية

بلغة الشارت .. كيف أصبحت الداتا نفط العصر الحديث؟

كان اكتشاف النفط كمورد للطاقة في منتصف القرن التاسع عشر، والتحول نحو استخدامه كبديل للفحم، بمثابة ثورة تأججت بمرور الوقت لتغير وجه الاقتصاد العالمي وتطلق العنان لازدهار الصناعات القائمة وخلق أخرى.

هذا المورد حرر الطاقات الكامنة للبشرية وأذن ببدء عصر مختلف، ما جعله محور اهتمام بالغ للغاية، حتى إنه أثار صراعات وحروبا – بما في ذلك الخلاف بين اليابان وأمريكا أثناء الحرب العالمية الثانية – كما تسبب في تفكيك إمبراطوريات تجارية لضمان عدم هيمنتها على “القلب النابض” للنظام العالمي الجديد.

وظلت شركات النفط في صدارة المشهد الاقتصادي العالمي إلى يومنا هذا، وكانت “إكسون موبيل” و”شيفرون” حاضرتين باستمرار ضمن قائمة أكبر الشركات في العالم من حيث القيمة السوقية، حتى سنوات قليلة مضت قبل أن تشهد الأسواق تغيرًا ملموساً.

نفط العصر الحديث

– باستثناء “أرامكو” التي تؤمّن لنفسها مكانة موثوقة بين الشركات الأكبر عالمياً، ومنافسة حتى كبار اللاعبين في مجال التكنولوجيا، بدأت مجموعة “بيج أويل” التقليدية تتراجع في التصنيف الأكبر قيمة لصالح “بيج تيك”.

– في العقد الماضي بدأت الأنظار تتجه إلى الداتا (البيانات) باعتبارها “الجهاز العصبي” للاقتصاد الجديد القائم على الرقمنة والذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، حيث ستقود طفرة النمو القادمة، حتى إن البعض ذهب إلى وصفها بـ “نفط العصر الحديث”.

– في حين بدا التشبيه في وقته بدائيًا نوعًا ما، فإنه يبدو الآن أكثر واقعية مع التطور من مجرد اهتمام برصد البيانات إلى إنشاء “سوق البيانات الضخمة” الذي أصبح يقدر بمليارات الدولارات.

– في هذا السوق، فإن كل ما يهمس به المستخدم عبر -أو حتى قرب الفضاء الإلكتروني- يمكن أن يترجم إلى تريليونات الدولارات من العوائد في المستقبل، ما يجعله محركًا ثوريًا جديدًا للاقتصاد العالمي على غرار ما فعله النفط في القرن العشرين.

– التسمية بـ “نفط العصر الحديث” لا ترجع فقط للأثر الاقتصادي المتوقع للبيانات، وإنما لعدد من التشابهات التي يراها محللون، مثل أن كليهما مورد قيّم للغاية، ونادر، وفي النهاية يحتاج لاستخراج ومعالجة قبل استهلاكه.

– طبعًا هذا لا يعني التقليل من أهمية النفط في شيء، حيث أشارت التقديرات إلى أن حجم سوق النفط والغاز العالمي وصل إلى 6.6 تريليون دولار تقريبًا في 2022، مع توقعات بوصوله إلى 8.6 تريليون دولار في 2030، بمعدل نمو مركب قدره 3.8% سنويًا.

– في الوقت نفسه، فإن حجم سوق تحليل البيانات الضخمة عالميًا قُدر بنحو 255 مليار دولار في عام 2022، مع توقعات بوصوله إلى 808 مليارات دولار في عام 2030، بمعدل نمو مركب يبلغ 13.7%، ورغم الفارق في الحجم، لا يمكن غض الطرف عن هذا النمو المتسارع.

كيف أصبحت البيانات بهذه الأهمية؟

– يرجع الاهتمام بالبيانات المولدة عبر مواقع الإنترنت مثل “فيسبوك” و”يوتيوب” وغيرها إلى العام 2005 -رغم أن أصل مصطلح البيانات الضخمة يرجع إلى السبعينيات-، حيث بدأ تطوير أطر عمل مفتوحة المصدر لتخزين مجموعات البيانات وتحليلها.

– لكن مع الزيادة الهائلة في عدد مستخدمي الإنترنت الآن وظهور العديد من الأجهزة المتصلة، وربط العديد من مقدمي الخدمات المختلفة أنفسهم بالشبكة العنكبوتية، أصبح مقدار البيانات المولدة الآن هائلًا، وأصبح مصطلح “البيانات الضخمة” أكثر منطقية.

– زادت كمية البيانات المولدة سنويًا منذ عام 2010، وخلال 13 عامًا، زاد حجم البيانات المولدة بنحو 60 مرة، ومن المتوقع أن تزيد كمية الـ 120 زيتابايت المولدة في عام 2023 بنسبة تتجاوز 50% بحلول عام 2025.

– تتكون الزيتابايت من ألف إكسابايت، والإكسابايت من ألف بيتابايت، والبيتابايت هي ألف تيرابايت، والتيرابايت هي في الأساس ألف جيجابايت، وتكفي الزيتابايت (كوحدة تخزين) لـ30 مليار فيلم بجودة فائقة (4K) أو 60 مليار لعبة فيديو أو 7.5 تريليون أغنية.

– للحصول على زيتابايت من سعة التخزين في المنزل فإنك بحاجة إلى 100 مليون قرص صلب بسعة 10 تيرابايت، ولفهم كيف يمكن حصد مثل هذا الكم الهائل من البيانات، يمكن النظر إلى الشكل التالي الذي يوضح حجم التفاعل الهائل لمستخدمي الإنترنت في الدقيقة الواحدة.

ماذا فعل مستخدمو الإنترنت حول العالم خلال كل دقيقة في 2023

نوع التفاعل على الإنترنت

حجم التفاعل

تغريدة على إكس

360 ألف

بحث على جوجل

6.3 مليون

إنفاق بالدولار على مشتريات من أمازون

455 ألف دولار

إجمالي مشاهدات محتوى مرئي

تعادل 43 سنة

أمر لـ شات جي بي تي

6.9 ألف

إعجاب على فيسبوك

4 ملايين

رسالة عبر واتساب

41.6 مليون

رفع سيرة ذاتية على لينكد إن

6.06 ألف

رسالة عبر بريد إلكتروني

241 مليون

إنتاج الفرد من البيانات

102 ميجا بايت

كيف تترجم البيانات إلى أموال؟

– يمكن أن تستغل البيانات الضخمة في تطوير المنتجات والتنبؤ باحتياجات الصيانة وتحسين تجربة العملاء وتعزيز الأمان، طبعًا إلى جانب التسويق والإعلانات (المربحة للغاية)، ومؤخرًا التعلم الآلي وتغذية الذكاء الاصطناعي، لذلك فإن سوقها آخذ في التنامي.

– هناك مقولة شائعة بين المسوقين الرقميين تقول “إذا كنت لا تدفع مقابل منتج ما، فأنت المنتَج”، وينطبق هذا على الخدمات -التي تبدو مجانية- عبر الإنترنت، مثل “جوجل” و”لينكد إن” و”فيسبوك” و”يوتيوب” و”إكس” وغيرها.

– العديد من الخدمات التي تقدمها هذه الشركات مجانية من الناحية الفنية، ومع ذلك، فإن المستخدمين يدفعون بشكل غير مباشر مقابل هذه الخدمات الرقمية باستخدام أحد أصولهم الأكثر قيمة، وهي البيانات التي تجمعها الشركات الخدمة أثناء استخدام خدمة معينة.

– تحقق هذه الشركات الدخل من البيانات عن طريق بيعها للعلامات التجارية والمعلنين وشركات أبحاث السوق، وهذا يوضح (على سبيل المثال)، لماذا ترى فجأة إعلانًا عن شيء كنت تبحث عنه عبر الإنترنت، أو -الأمر الأكثر رعبًا حتى الآن- عندما ترى إعلانًا عن شيء تتحدث عنه مع شخص آخر.

– تشير بعض التقديرات إلى تقييم البيانات الشخصية الأساسية للشخص بنحو ثلاثة سنتات فقط، ومع ذلك، يمكن أن تصل سجلات الرعاية الصحية إلى أكثر من 250 دولارًا، والسجلات المصرفية إلى أكثر من 4 دولارات، وبيانات بطاقة الدفع أكثر من 5 دولارات.

– كما هو الحال مع النفط الذي يعد موردًا ثمينًا في ذاته، وأكثر قيمة بعد معالجته، فإن البيانات كذلك، ففي حين أصبح لها سعرًا وتجارة رائجة، إلا أن استغلالها بالشكل الأمثل يمكن أن يحقق ثروات طائلة، ويبدو أن تطور سوق الإعلانات الرقمية أبرز مثال على ذلك.

– تستفيد قطاعات لا حصر لها تقريبًا الآن من شراء وتحليل البيانات سواء لتطوير المنتجات أو للتسويق، ويشمل ذلك البنوك والخطوط الجوية ومقدمي الرعاية الصحية، وحتى شركات النفط نفسها تستخدم تحليل البيانات الضخمة لتحسين كفاءة الإنتاج.

من يهيمن على النفط الرقمي؟

– بطبيعة الحال كان أكبر المستفيدين من هذه الطفرة الجديدة التي خلقها مورد البيانات، شركات التكنولوجيا الكبرى مثل “ميتا” و”ألفابت” و”إنفيديا”، وهو ما انعكس مؤخرًا على قيم الأسهم، لا سيما مع طفرة الذكاء الاصطناعي.

– لا شك أن هذا يعني بالتبعية هيمنة أمريكية على هذه الصناعة، وهو ما تعكسه بيانات إيرادات مراكز البيانات التي تظهر استحواذ الولايات المتحدة على نحو 25% من إجمالي الإيرادات العالمية.

– كما يؤكد هذه الهيمنة العدد الضخم لمراكز البيانات في الولايات المتحدة، حيث تمتلك وحدها أكثر مما تمتلك باقي أكبر الأسواق مجتمعة.

البيانات تعني الحاجة للنفط ولا تستبدله

– تستهلك مراكز البيانات التي يُخزن ويُعالج من خلالها تفاعلات مستخدمي الإنترنت في شتى بقاع الأرض، قدرًا هائلًا من الطاقة، وذلك بغض النظر عن الطاقة التي تحتاج إليها منتجات رقمية جديدة مثل الذكاء الاصطناعي وتعدين البيتكوين.

– في حين يظهر الشارت أعلاه ثباتًا نسبيًا في تطور الطلب على الطاقة لتشغيل مراكز البيانات، تشير تقديرات “آي دي سي” إلى أن مراكز الطاقة في عام 2022 استهلكت ضعف الكمية المستهلكة في عام 2021 تقريبًا مع توقعات بارتفاع الاستهلاك إلى 803 تيراواط/ ساعة بحلول عام 2027.

– يبدو هذا التوقع متسقًا مع خطط كبار المستثمرين أمثال “بلاكستون” التي وضعت خطة بقيمة 25 مليار دولار للاستثمار في مراكز البيانات، متعللة بأنها تشكل فرصة قوية للمستقبل المنظور في ظل الطلب المتزايد عليها والعرض الضعيف.

– مع الأخذ في الاعتبار الطلب الكبير للطاقة من أجل تشغيل مراكز البيانات، وتعدين البيتكوين، وكذلك نهم الذكاء الاصطناعي للطاقة، ومع تقارب الفجوة بين الإمدادات والاستهلاك، فهذا يعني أن العالم سيظل بحاجة إلى مزيد من موارد الطاقة، لا سيما النفط.

– في النهاية، لا يُقصد أن البيانات الضخمة ستلغي الحاجة إلى النفط، بل على العكس ستساعد على جعل الصناعة أكثر كفاءة، وتحفز الطلب عليه في ظل عالم يواجه عجزًا محتملًا وثورة رقمية قائمة على الاستهلاك الكثيف للطاقة.

المصادر: أرقام – الإيكونوميست – بي بي سي – شركة أوراكل – موقع ميديوم – موقع بي سي ماج – شركة أبحاث “جروب سولفر” – ستاتيستا – وكالة الطاقة الدولية – آي دي سي – شركة البرمجيات السحابية “دومو” شركة البرمجيات السحابية “كلاودسين” – منصة “ديجيكونوميست”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى