مقالات اقتصادية

صعود وهبوط رمز القوة المالية السويسرية

كتب أسامة صالح 

خارج المحطة المركزية في زيوريخ، ينظر تمثال ألفريد إيشر بكل فخر في شارع باهنهوفستراسي، أحد أغلى شوارع التسوق في العالم، إلى باراديبلاتز، قلب الحي المالي في المدينة.

لا تزال القطارات تمشي على طول شبكة السكك الحديدية السويسرية التي أنشأها الصناعي في القرن الـ19، لكن البنك الذي أسسه قبل 167 عاما لتمويل تطويرها سيتم دمجه قريبا.

تم إنقاذ بنك كريدي سويس من شبه الإفلاس في نهاية الأسبوع الماضي من قبل منافسه المحلي بنك يو بي إس في عملية استحواذ دبرتها الحكومة على عجل، ما أرسل موجات صدمة في جميع أنحاء سويسرا والأسواق المالية العالمية.

لأكثر من قرن ونصف، كان بنك كريدي سويس يمثل رمزا للقوة المالية السويسرية، واستقرارها ومكانتها المرموقة. لكن تدهور مكانته في الأعوام الأخيرة سلط الضوء على هشاشة سمعته، التي شوهتها سلسلة من الفضائح الداخلية.

قال أوزوالد جروبل، الرئيس التنفيذي السابق لكل من بنكي كريدي سويس ويو بي إس “من المروع أن نفقد بنكا عمره 167 عاما في غضون 72 ساعة”، مضيفا أن “تراجع البنك بدأ بعد الأزمة المالية، ومن هناك انحدر إلى الأسفل والأسفل، والأسفل”.

لدى جون ماك، رئيس تنفيذي سابق آخر لبنك كريدي سويس الذي تولى رئاسة بنك مورجان ستانلي لاحقا، تقييم أكثر وضوحا لأسباب إفلاسه “أداؤه يوضح كل شيء”.

الصعود: البنك الذي غير “البلد المعزول المنسي في أوروبا”

نشأ بنك كريدي سويس من إصرار إيشر على فتح بلد شعر بالأسف من أجله، وصفه بـ”البلد المعزول المنسي في أوروبا”، عبر تطوير شبكة سكك حديدية عبر الدولة الواقعة في جبال الألب التي تربط بين شمال أوروبا وجنوبها.

تطلب بناؤها مبالغ ضخمة من المال ولم يرغب في الاعتماد على المقرضين الأجانب، الذين طالبوا بأن تكون لهم سلطة على مشاريع البنية التحتية التي مولوها. لذلك في 1856 أسس بنك شفايتريزشي كريديتانستالت، الذي تم تغيير علامته التجارية لاحقا إلى كريدي سويس. لا يزال الاختصار الأصلي للبنك، إس كيه أيه، يزين مقره الفخم المشيد من الحجر الرملي الذي يهيمن على منطقة باراديبلاتز.

قال جوزيف جونج “لا يمكن تصور قصة النجاح السويسرية في القرن الـ19 دون بنك كريدي سويس. الكلمة السحرية هي السكك الحديدية”. جونج هو المؤرخ الرسمي السابق للبنك ومؤلف كتاب يدور حول حياة إيشر بعنوان “الصعود، السلطة، المأساة”، عنوان ملائم جدا للبنك الذي أسسه أيضا.

على مدار القرن التالي، كان بنك كريدي سويس في قلب النمو الاقتصادي السويسري، من المساعدة على تطوير عملتها إلى تمويل شبكتها الكهربائية. أصبح البنك المفضل بالنسبة إلى الطبقة المتوسطة المتنامية في البلد، قبل التوسع في أوروبا وافتتاح أول فرع له في نيويورك في 1940.

أتاحت الحرب العالمية الثانية للبنك كلا من الفرصة وأول تجربة له في الخزي العالمي.

حيث لعب بنك كريدي سويس دورا رائدا في تمويل جهود إعادة الإعمار في جميع أنحاء أوروبا في أعقاب الصراع، على الرغم من اتهامه أيضا من قبل الناجين من المحرقة بمنعهم من الوصول إلى حسابات أقاربهم المتوفين. قام البنك وغيره من البنوك السويسرية بتسوية دعوى قضائية جماعية حول هذه المسألة بمبلغ 1.25 مليار دولار في 1998.

كما وجد أن البنوك المقرضة التي استحوذ عليها بنك كريدي سويس لديها حسابات مرتبطة بمسؤولين في الحزب النازي، وطوال فترة وجود البنك، ستلازمه اتهامات بغض نظره عن الأنشطة الشائنة لبعض عملائه.

في الستينيات، صاغ السياسيون البريطانيون عبارة “أقزام زيوريخ” لوصف المصرفيين السويسريين الذين كانوا يخبؤون صناديق من الذهب في كهوف تحت الأرض. ولعقود من الزمان، ارتدى الممولون في البلد هذا المصطلح كوسام شرف، حيث عملوا في صناعة تفتخر بسريتها.

بنى بنك كريدي سويس نفسه قبوا مذهبا تحت مستوى سطح بحيرة زيوريخ القريبة بـ18 قدما ويحتوي على 3,500 خزنة لعملائه.

لم يدخل بنك كريدي سويس المسرح العالمي بشكل فعلي حتى 1978، عندما أبرم صفقة شراكة مع بنك الاستثمار الأمريكي فيرست بوسطن. وعبر سلسلة من عمليات الاستحواذ الجريئة بشكل متزايد، عزز وجوده في زيوريخ، ولندن ونيويورك، وأصبح راسخا بين “البنوك الاستثمارية العالمية المرموقة”.

ثقافة محفوفة بالمخاطر: كيف فقد بنك كريدي سويس جوهره؟

في هذه المرحلة بدأ البنك فقدان طريقه، وفقا لفنسينت كوفمان، الرئيس التنفيذي لمؤسسة إيثوس، الذي يتتبع كثيرا من مشكلات إدارة المخاطر النهائية للبنك إلى تبنيه الخدمات المصرفية الاستثمارية.

قال كوفمان، الذي تمثل مؤسسته صناديق التقاعد السويسرية والمستثمرين المؤسسيين الذين يمتلكون ما يصل إلى 5 في المائة من بنك كريدي سويس “بعد دخول البنك إلى أسواق المال والتداول، بدأ يفقد جوهره وتغيرت عقليته”.

كان لدى بنك فيرست بوسطن نهج عالي المخاطرة في الأعمال المصرفية، مع تقديم مكافآت باهظة لأكبر المخاطرين. وجدت مجموعة من المصرفيين والمستثمرين المؤثرين نفسها بارعة في العمل، من بروس واسرستين وجوزيف بيريلا، اللذين أنشآ شركتهما الخاصة، إلى ريتشارد هاندلر، الرئيس التنفيذي حاليا لبنك جيفريز.

كان من بين الأعضاء السابقين الآخرين لاري فينك، الرئيس والمدير التنفيذي لصندوق بلاك روك، الذي غادر بنك فيرست بوسطن في 1986 بعد أن تكبد فريقه خسارة قدرها مائة مليون دولار نتيجة توقع غير صحيح لسعر الفائدة.

قال أحد متقاعدي بنك فيرست بوسطن “كان هناك دائما انقسام ثقافي بين الجانب السويسري وجانب الإنجليز. في بعض الأحيان كنت أعتقد أن ذلك كان مثمرا”. وأضاف أن “النهج السويسري المندفع من قبل العملية كان يستكمل خلال أوقات الأزمات بميل نظرائهم في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى تحدي الحكمة السائدة”.

في لندن في الثمانينيات، لعب بنك كريدي سويس دورا مؤثرا في تطوير منطقة كناري وارف كمركز مالي بديل لمنطقة سكوير مايل. وقد نشأت فكرة إنشاء المركز الجديد من خطة وضعها مايكل فون كليم، رئيس مجلس إدارة فيرست بوسطن كريدي سويس، وهو البنك الاستثماري التابع لكريدي سويس، الذي أراد بناء مركز للشؤون الإدارية على الموقع الأرخص بكثير.

كان المكتب الرئيس للبنك في مبنى ون كابوت سكوير في المملكة المتحدة من أوائل المباني الشاهقة التي تم بناؤها، فيما أصبح منذ ذلك الحين منطقة دوكلاندز التي تنتشر فيها ناطحات السحاب.

بحلول 1990، اشترى بنك كريدي سويس حصة مسيطرة في بنك فيرست بوسطن بعد أن خسر البنك الأمريكي ملايين الدولارات نتيجة انهيار سوق السندات غير المرغوب فيها. تغلغلت ثقافة بنك فيرست بوسطن عالية المخاطر عبر بنك كريدي سويس الاستثماري على مدار العقود الثلاثة التالية.

مع ذلك، كان أداء بنك كريدي سويس أفضل من معظم البنوك خلال الأزمة المالية. فعلى عكس بنك يو بي إس، تجنب عملية الإنقاذ الحكومية وتكبد خسائر أكثر قابلية للإدارة في الرهون العقارية عديمة الملاءة من منافسيه في الولايات المتحدة.

مع ذلك، فقد اعتمد على استثمارات كبيرة من مستثمرين من الشرق الأوسط، وهما عائلة العليان في المملكة العربية السعودية وجهاز قطر للاستثمار، اللذان لا يزالان من بين أكبر مساهميه.

قال ديفيد سيز، وزير الدولة السويسري السابق للشؤون الاقتصادية الذي شغل منصب مدير بنك كريدي سويس بين 2006 و2013 “عندما كنت عضوا في مجلس الإدارة، كان بنك يو بي إس هو الذي يمر بأزمة. كنا سعيدين للغاية لأننا نجونا من الأمر برمته. لكن جزءا من ذلك، على ما أعتقد، كان بسبب الحظ”.

الأزمات: احتيال، فضائح وتداعيات

قال عدة مديرين ومسؤولين تنفيذيين حاليين وسابقين في بنك كريدي سويس، الذين تحدثوا إلى “فاينانشيال تايمز”، “إنهم يعتقدون أن حقيقة أن البنك نجا من الأزمة المالية سالما نسبيا قد زرعت بذور فشله في النهاية”.

قال مدير سابق لم يكن عضوا في مجلس الإدارة في ذلك الوقت “بعد فوات الأوان، اعتقدت الإدارة أن ذلك يبرر أنموذج أعمالهم وأنهم لم يكونوا بحاجة إلى التغيير”.

بينما اضطرت البنوك الأخرى إلى تنظيف أعمالها وتقليص ميزانياتها في الأعوام التي أعقبت الانهيار، أجل بنك كريدي سويس التعامل مع المشكلات المتعلقة بقرارته السابقة وكان أكثر رغبة في المخاطرة.

اتسمت أعوامه الأخيرة كمجموعة مستقلة بسلسلة من الفضائح والخسائر الفادحة، حيث كان يترنح من أزمة إلى أخرى.

ألقي اللوم في معاناة البنك خلال هذه الفترة على أشخاص مختلفين. لكن اللذين ألقي عليهما القدر الأكبر من اللوم في أغلب الأحيان هما أورس رونر، لاعب سباق حواجز دولي تحول إلى المحاماة، الذي ترأس مجلس إدارة البنك بين 2011 و2021 عندما خسرت أسهمه 75 في المائة من قيمتها، وروميو سيروتي، المستشار العام للبنك لمدة 13 عاما حتى 2022.

قال ديفيد هيرو، كبير مسؤولي الاستثمار في “هاريس أسوشيتس”، مستثمر قديم في البنك الذي باع حصته بالكامل هذا الشهر “كان هناك شخص واحد في هذه المنظمة طوال فترة الفساد هذه، أورس رونر رئيس مجلس الإدارة. لكن مجلس الإدارة لم يكن مستقلا وقويا بما يكفي لتحديه”.

لم يستجب رونر لطلب التعليق، بينما رفض سيروتي التعليق.

في العقد الذي أعقب الأزمة المالية، اصطدم بنك كريدي سويس نفسه بالجهات التنظيمية بشأن سلسلة من الفضائح المالية التي بدت لفترة طويلة أنها ضرورية بالنسبة إلى البنوك العالمية.

وقد تورط في معارك قانونية أمريكية حول الرهون العقارية عديمة الملاءة، وكان له دور ثانوي في فضيحة شركة إم دي بي الماليزية، وأقر بأنه مذنب في مساعدة المواطنين الأمريكيين على تقديم إقرارات ضريبية مزيفة.

في إحدى القضايا، نظم مصرفيو بنك كريدي سويس قروضا بقيمة 1.3 مليار دولار لموزمبيق -واحدة من أفقر بلدان العالم- لتطوير صناعة صيد سمك التونة. لكن تم ابتلاع كثير من الأموال في شكل رشا للمسؤولين المحليين والمصرفيين المشاركين في الصفقة.

في قضية أخرى، احتال باتريس ليسودرون المصرفي الخاص على بعض أغنى عملاء بنك كريدي سويس الأغنى وأكثرهم حساسية من الناحية السياسية -بمن فيهم الملياردير رئيس وزراء جورجيا السابق- لأكثر من عقد، مستخدما المكاسب غير المشروعة لتمويل أسلوب حياة باذخ من ساعات رولكس، وجوهرات شانيل والسيارات الرياضية.

في كل مرة تم فيها عرض إحدى قضاياه، كان “كريدي سويس” يختار مقاومة الادعاءات عوضا عن التسوية، ما أدى إلى تفاقم المشكلات للمستقبل.

مع حلول 2015، عين البنك تيجاني ثيام، الرئيس التنفيذي السابق لشركة برودينشال، كرئيس تنفيذي للمساعدة على إحداث تغييرات في البنك، لإعادة تموضعه من العمليات المصرفية الاستثمارية في عهد سلفه، برادي دوجان، إلى أصوله في إدارة الثروات.

لكن في غضون بضعة أعوام، اختلف ثيام بشكل مذهل مع إقبال خان رئيس إدارة الثروات الطموح للغاية، الذي اشترى منزلا بجوار رئيسه مباشرة على ضفاف بحيرة زيوريخ.

وقد تصاعد الخلاف بين الجارين حول مشروع بناء وحجب مناظر البحيرة، ما دفع خان إلى الانشقاق والذهاب إلى “يو بي إس”. لكن قبل انضمامه، تعقب محققون خاصون عينهم بنك كريدي سويس وراقبوا خان وعائلته في شوارع زيوريخ الهادئة عادة، بسبب مخاوف من أنه كان يصطاد الموظفين والعملاء بصورة غير شرعية.

عندما تم الكشف لاحقا عن وقوع حوادث تجسس أخرى على الشركات، انتهى وقت ثيام في بنك كريدي سويس وتمت إقالته في أوائل 2020.

مواجهة النسيان

بعد ذلك، لجأ البنك إلى توماس جوتشتاين الذي عمل مديرا تنفيذيا لفترة طويلة لقيادة البنك وانتشاله من الأزمة. لكن في غضون عام، انهارت الأمور بشكل مذهل.

في آذار (مارس) 2021، اضطر بنك كريدي سويس إلى إغلاق مجموعة من الصناديق بقيمة عشرة مليارات دولار، المرتبطة بشركة جرينسيل كابيتال المتخصصة في التمويل، حيث تم إقناع ألف من عملائها الأكثر ثراء بالاستثمار فيها على وعد بعوائد مغرية دون مخاطر.

قام ليكس جرينسيل مزارع البطيخ السابق والمتحدث السلس، الذي عينه ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني السابق كمستشار، باستخدام الأموال الموجودة في الصناديق لشراء ما يسمى بالحسابات المدينة، وهي من أشكال فاتورة الشركات.

لكن كثيرين كانوا مستائين من ذلك، بينما كان “كريدي سويس” في خضم عملية محفوفة بالمخاطر ومكلفة لاستعادة الأموال لعملائه من خلال مطالبات التأمين والدعاوى القضائية التي من المتوقع أن تستمر لأعوام.

بعد بضعة أسابيع، تعرض “كريدي سويس” لخسارة قدرها 5.5 مليار دولار نتيجة انهيار مكتب عائلة آركيجوس كابيتال، التي تعد أكبر خسارة تجارية في تاريخه. فيما حدد تقرير داخلي حول إخفاقات البنك في وقت لاحق “الفشل الجوهري للإدارة والضوابط” في بنك كريدي سويس الاستثماري و”موقفه الضعيف تجاه المخاطر”.

في أعقاب الأزمتين مباشرة، حل أنطونيو هورتا أوسوريو رئيسا لمجلس الإدارة بدلا من رونر. حيث وعد الرئيس التنفيذي السابق لمجموعة لويدز المصرفية بإزالة المخاطر عن البنك المقرض ومعالجة أوجه القصور الثقافية فيه وتقليص حجم البنك الاستثماري.

لكن قبل أن يتم وضع خططه قيد التنفيذ، كان هورتا أوسوريو قد ذهب أيضا. فبعد تسعة أشهر من انضمامه إلى مجلس الإدارة، اختلف مع أعضاء المجلس حول عديد من القضايا، بما فيها خرقه قيود الحجر الصحي لفيروس كوفيد – 19 من أجل حضور نهائي بطولة ويمبلدون للتنس الفردي للرجال ونهائي بطولة أوروبا لكرة القدم في لندن.

من بين المهام الأولى التي تولاها خلفه أكسل ليمان، المدير التنفيذي السابق لبنك يو بي إس، هي التعامل مع تداعيات أن “كريدي سويس” هو أول بنك سويسري يتهم بجرائم جنائية في تاريخ البلد، في قضية تتعلق بدوره في غسل أموال غير شرعية لمجموعة من المصارعين البلغاريين السابقين الذين تحولوا إلى تهريب الكوكايين.

على الرغم من أن هذه الحوادث تعود إلى أكثر من عقد، إلا أنها كانت تذكيرا آخر بنهج البنك في إدارة المخاطر، وكانت تلك القضية -وتفاصيلها الدموية عن عمليات الاغتيال والاختطاف- هي آخر ما أراد بنك كريدي سويس أن يقترن به.

بعد ذلك، أفاد ائتلاف لوسائل الإعلام عن وثائق مسربة تم الحصول عليها دون تفويض وتحتوي على تفاصيل حسابات 30 ألف عميل في “كريدي سويس”، ويعود تاريخ بعضها إلى عدة عقود.

كان من بين العملاء أفراد عائلة الرئيس المصري السابق حسني مبارك، والرئيس الكازاخستاني السابق، ورونالد لي فوك، الرئيس السابق لبورصة هونج كونج الذي سجن بتهمة تلقي رشا.

بحلول صيف 2022، رحل جوتشتاين وحل مكانه مسؤول تنفيذي سابق آخر في “يو بي إس” هو أولريش كورنر السويسري – الألماني الذي يتصف برباطة الجأش. ثم أمضى ليمان وكورنر وبقية أعضاء مجلس إدارة بنك كريدي سويس الأشهر الثلاثة بعدها في وضع استراتيجية جديدة مستعجلة أكثر من أجل السيطرة على ثروات البنك.

بموجب هذه الخطة، سيتم فصل جزء كبير من البنك الاستثماري في صفقة مثيرة للجدل مع مايكل كلاين المدير السابق، في حين جمع البنك أربعة مليارات دولار من مستثمرين من الشرق الأوسط بشكل أساسي لدفع تكاليف إعادة هيكلة ضخمة من شأنها أن تؤدي إلى تخفيض تسعة آلاف وظيفة.

لكن بحلول الوقت الذي تم فيه تنفيذ الاستراتيجية الجديدة في أواخر تشرين الأول (أكتوبر)، كان البنك ينهار في ظل أزمته الأخيرة.

في هذه المرة، شائعات وسائل التواصل الاجتماعي حول صحته المالية دفعت العملاء إلى سحب أكثر من 111 مليار فرنك سويسري من الأصول من حساباتهم في “كريدي سويس”، أي ما يعادل 8 في المائة من أصوله الخاضعة للإدارة.

كان ليمان يلقي باللائمة في النهاية على سقوط البنك على منصة تويتر، لكن لا يزال هناك متسع من الوقت لارتكاب مزيد من الأخطاء الفادحة.

في بداية 2023، قامت الجهة التنظيمية المالية السويسرية فينما، بالتحقيق في دقة التعليقات التي أدلى بها ليمان حول حجم تدفقات الأموال الخارجة، بينما اضطر البنك إلى تأجيل نشر تقريره السنوي بعد أن اكتشفت شركة برايس ووترهاوس كوبرز لتدقيق الحسابات “نقاط ضعف جوهرية” في ضوابطه الداخلية، وطالبت لجنة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية بمزيد من المعلومات.

بحلول الأسبوع الماضي، كان تعليق مفاجئ من قبل رئيس البنك الأهلي السعودي، أكبر مساهم في “كريدي سويس” حاليا، حول رفض مزيد من الاستثمار في المجموعة -إلى جانب التوتر بشأن الانهيار الأخير لثلاثة بنوك أمريكية- كافيا لإنهاء المجموعة تماما.

ومع قيام العملاء بسحب 35 مليار دولار في ثلاثة أيام فقط الأسبوع الماضي، طالبت السلطات السويسرية ببيع “كريدي سويس” لبنك يو بي إس أو يصبح طي النسيان. وبذلك تم تحديد مصير البنك.

قال أحد المشاركين في المفاوضات في مقر باراديبلاتز في بنك كريدي سويس خلال عطلة نهاية الأسبوع “كان الناس غارقين في دموعهم الأحد والإثنين. لقد كان ذلك مروعا جدا”.

أما بالنسبة إلى ما سيحدث بعد ذلك، بدأ المديرون التنفيذيون في “يو بي إس” وضع خطط مفصلة لأي جزء من الأعمال التي سيحتفظون بها، وتلك التي سيبيعونها أو يفككونها.

قال أحد المشاركين في مداولات “يو بي إس”، “أنا أتفهم تراث ألفريد إيشر. لكن بنك يو بي إس قام بالشيء الصحيح في سبيل كل هذا التاريخ، وهذا التراث، وإلا فإنه كان سيختفي تماما”.

صعود بنك كريدي سويس وسقوطه

1856: الأب المؤسس

أراد ألفريد إيشر، الصناعي والسياسي، تحديث الاقتصاد السويسري ورفع مستواه عبر تحسين التجارة مع أوروبا. لذلك أسس بنك شفايتريزشي كريديتانستالت، العلامة الرائدة لبنك كريدي سويس اليوم، للمساعدة على تمويل نظام سكك حديدية جديد يربط سويسرا بالموانئ التجارية في أوروبا. وسيلعب البنك دورا محوريا في سويسرا، حيث ساعد على إنشاء عملة موحدة وشبكة الكهرباء في البلد.

1934: القانون المصرفي السويسري

تدفقت الثروات الخاصة إلى سويسرا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بعد أن أصدرت الدولة قانون البنوك لعام 1934 الذي ينص على تجريم إفشاء المعلومات بشأن نشاط العملاء دون موافقة منهم، أو وجود دعوى جنائية مقبولة. وأصبحت الصناعة المصرفية السويسرية مرادفا للسرية، ما ساعد على تعزيز حضور البلد على المسرح المالي العالمي، لكنه ارتبط أيضا بالفضائح والمكاسب غير المشروعة.

1988: الاستحواذ على بنك فيرست بوسطن

اشترى بنك كريدي سويس حصة قيمتها 44 في المائة في بنك الاستثمار الأمريكي فيرست بوسطن بعد أن واجه البنك الصغير الذي يتخذ من نيويورك مقرا له صعوبة ناجمة عن انهيار سوق السندات غير المرغوب فيها. واستحوذ لاحقا على حصة مسيطرة في 1990، ما ساعد على دفع بنك كريدي سويس إلى مركز قوة مصرفية استثمارية عالمية لمنافسة عمالقة وول ستريت مثل بنك جولدمان ساكس.

2012 – 2016: فضيحة سندات التونا

نظم مصرفيو بنك كريدي سويس قروضا بقيمة 1.3 مليار دولار لموزمبيق -إحدى أفقر بلدان العالم- لتطوير صناعة صيد سمك التونة. لكن كثيرا من الأموال تم ابتلاعها في شكل رشا للمسؤولين المحليين والمصرفيين. وفي 2021، دفع البنك السويسري 475 مليون دولار على شكل غرامات في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، لكن ما كان الأكثر ضررا هو التكلفة التي تكبدها شعب موزمبيق، التي تقدر بنحو 400 دولار لكل مواطن، إجمالي الناتج المحلي للبلد في 2016.

شباط (فبراير) 2020: فضيحة التجسس

تم خلع تيدجان ثيام الفرنسي من منصب الرئيس التنفيذي للبنك بعد فضيحة تجسس بين الشركات هددت بزعزعة استقرار الصناعة المصرفية السويسرية. وقد وجدت الجهات التنظيمية السويسرية في وقت لاحق أن البنك يعاني “أوجه قصور مؤسسية خطيرة” وأن “التصريحات التي أدلى بها البنك للجمهور ولهيئة الإشراف على السوق المالية السويسرية أثبتت فيما بعد أنه منقوص أو حتى غير دقيق”.

2021: جرينسيل وآركيجوس

اضطر بنك كريدي سويس إلى إغلاق صناديق بقيمة عشرة مليارات دولار مرتبطة بجرينسيل كابيتال شركة التمويل المتخصص المنهارة، التي كان قد أقنع مئات من عملائه الأثرياء بالاستثمار فيها. وبعد أسابيع من فضيحة شركة جرينسيل أتى انهيار مكتب العائلة آركيجوس كابيتال، ما أدى إلى تكبد بنك كريدي سويس خسائر إضافية بقيمة 5.5 مليار دولار.

كانون الثاني (يناير) 2022: انتهاكات هورتا أوسوريو قواعد كوفيد

استقال أنطونيو هورتا أوسوريو من منصبه كرئيس لمجلس إدارة بنك كريدي سويس بعد أن توصل تحقيق إلى أنه انتهك قواعد كوفيد في المملكة المتحدة خلال رحلة إلى لندن لمشاهدة نهائي بطولة ويمبلدون للتنس للرجال في الصيف الماضي. وتم الكشف لاحقا أنه حضر أيضا نهائي بطولة أوروبا لكرة القدم في ويمبلي في اليوم نفسه.

2023: الأيام الأخيرة

تأتي النهاية مع صفقة مثيرة للجدل، التي دبرها المنظمون خلال عطلة نهاية أسبوع محمومة. حيث يقوم بنك يو بي إس بشراء “كريدي سويس” بالكامل مقابل ثلاثة مليارات فرنك سويسري، أي نحو 0.76 فرنك سويسري للسهم، وهو جزء بسيط من القيمة الدفترية لأصوله الملموسة. كما يتم حرمان المساهمين من التصويت على الاتفاق، ويتم تجريد مالكي السندات البالغة 17 مليار دولار قبل حاملي الأسهم العادية، وبذلك تم عكس التسلسل الهرمي لرأس المال، والتسبب في إثارة القلق لدى المشاركين في السوق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى