مقالات اقتصادية

عندما قامت سويسرا بتعويم الفرنك..

كتب أسامة صالح 

في عام 1973، تَم التخلي نهائياً عن معيار الذهب، وفقدت أسعار الصَرف استقرارها بالتالي. ولكن كيف كانت تداعيات هذا القرار على اقتصاد سويسرا وسياستها المالية؟

أعلن المصرف الوطني السويسري في وقت سابق من هذا العام عن عَجزٍ قياسي بلغ 132 مليار فرنك (143 مليار دولار) للسنة المالية 2022. وقد تراكم هذا المبلغ لدى المصرف خلال معركته لتجنب الارتفاع الحاد في قيمة العملة الوطنية، والذي اضطره – من بين أمور أخرى – إلى شراء العملات الأجنبية لمواجهة التهافت على الفرنك السويسري.
يُعتَبَر اعتماد الاقتصاد السويسري القوي على المصرف الوطني للبلاد أمراً جديداً من الناحية التاريخية. وقد بدأ ذلك في شهر يناير قبل خمسين عاماً، عندما تعيَّن على سويسرا التخلي عن أسعار الصرف الثابتة لعملتها. swissinfo SWI تحدثت مع اثنين من المؤرخين حول هذا التغيير الجذري.

وداعا للذهب
يصف المؤرخون السنوات التي أعقبت عام 1945 وحتى منتصف السبعينيات بـ “سنوات المُعجزة الاقتصادية”. كما ارتبطت نهاية هذه الفترة من التنمية والازدهار بتاريخ مُحدد، هو انهيار نظام ‘بريتون وودز’ (Bretton Woods system) النقدي الدولي.

وكانت اتفاقية ‘بريتون وودز’، التي تبنتها 44 دولة في المؤتمر النقدي والمالي للأمم المتحدة في عام 1944، تهدف إلى تقليل تقلُّبات العملات الدولية، حيث أنها بُنيَت على اساس تحديد سعر لكل عملة مقابل كل من الدولار والذهب. ومن ناحية أخرى، تعهدت جميع الدول بتثبيت اسعار عملتها الوطنية من خلال سياستها النقدية – وخاصة مشترياتها ومبيعاتها من الدولار.

بعد عام 1945، تميزت السياسة النقدية الدولية بالرغبة في الاستقرار والقُدرة على التخطيط. وبالنسبة للمؤرخ الاقتصادي توبياس شتراومانّ، كانت اتفاقية ‘بريتون وودز’ نوعا من اقتصاد الحرب المطول. وكما أوضح: “بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، عاد الناس بسرعة كبيرة إلى النظام الاقتصادي الليبرالي للقرن التاسع عشر، لكن ذلك انتهى بالانهيار الكبير (أو الكساد العظيم) بداية عام 1929. لهذا السبب، كان الناس أكثر حَذَراً بعد الحرب العالمية الثانية، وأخّروا الانتقال إلى اقتصاد السلام”.
لكن هذا النظام انهار في أواخر أعوام الستينيات، حيث لم تعد الولايات المتحدة قادرة على الإيفاء بوعدها باستبدال الدولار بالذهب. وفي عام 1971، أعلن الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون تعليق قابلية تحويل الدولار إلى الذهب (أو ما يسمى بالمعيار الذهبي) وفك الارتباط بينهما.
ووفقاً لـ شتراومانّ، كانت هذه “أكبر نقطة تحول في التاريخ النقدي”. وكما يوضح: “منذ ذلك الحين لم يكن هناك سوى الورق المطبوع، وبإمكان المرء أن يغرق في ديون لا حد لها”. وكان الارتباط بالمعدن النفيس قد قيَّد هذه العملية في السابق.
من جانبها، التزمت سويسرا بقوة بهذا النظام النقدي لأسعار الصرف الثابتة منذ ستينيات القرن الماضي. وفي عام 1962، أكد ماكس إيكلي، العضو آنذاك في مجلس إدارة المصرف الوطني السويسري، أن الأمر بالنسبة له كان يتعلق أيضاً بتصحيح سُمعة سويسرا. وكما أعلَن حينها، فقد لاحظ الجميع بالتأكيد “نظرات الريبة التي ينظر بها المنافسون الأجانب إلى مصارفنا وصفقاتها الكبيرة”. وكما أضاف، “حتى الرئيس الأمريكي وصف سويسرا بـ ‘الملاذ الضريبي’”. وبرأيه فإن مقولة “الثروة مُلزِمة” تنطبق على السياسة النقدية ايضاً.
لكن الكنفدرالية تخلَّت عن هذا النظام في نهاية يناير 1973، عندما أدَّت أزمة للعملة الإيطالية مجدّداً إلى زيادة أعداد المستثمرين في الفرنك السويسري. وحينها، أعلن وزير المالية السويسري نيلو تشيليو أن المصرف الوطني السويسري لن يشتري المزيد من الدولارات في الوقت الحالي وسيترك تحديد قيمة صَرف الفرنك السويسري لسوق العملات.
وهكذا، توقفت عملية التدخل للسيطرة على الفرنك من خلال بيع وشراء الدولار، وأعلنت سويسرا أيضا نهاية السياسة النقدية لما بعد الحرب – وأصبحت أول دولة تسمح بـ “تعويم” عُملتها الوطنية.

سيكون من الخطإ افتراض أن هذا القرار إنما جاءَ نتيجة لاعتبارات استراتيجية كبرى. ذلك أن الحكومة السويسرية والمصرف الوطني السويسري ارتئيا حينها تعليق مشتريات الدولار لفترة قصيرة فقط واستئنافها في وقت لاحق. وحتى عام 1971، كان فريتس لويتفايلَر، رئيس المصرف الوطني السويسري آنذاك، يرى أن أسعار الصرف المرنة هي ممارسة “خيالية”. ورغم أن لويتفايلَر كان يجهل تماماً كيفية التحكم في السياسة النقدية في ظل أسعار صرف مرنة – كما أخبر أحد أصدقائه بعد أن بات الانتقال أمراً محسوماً – إلا أنَّ رئيس المصرف الوطني السويسري أصبح خبيراً في منع تدفق رؤوس الأموال إلى سويسرا.
وبحسب  شتراومانّ: “لقد كانوا يفعلون شيئًا لا يُريدون فعله أصلاً، وكان عليهم الارتجال طوال الوقت”.

في الواقع، لم يكن المصرف الوطني السويسري نفسه مقتنعاً تماماً بمسيرته الفردية هذه. وهكذا، تم التفكير في الانضمام إلى رابطة أسعار الصرف الأوروبية، أو ما يسمى بـنظام “الثعبان داخل النفق” في وقت مبكر من عام 1975. ويتعلق الأمر هنا باعلان للدول الاعضاء في الجماعة الاقتصادية الاوروبية (الاتحاد الأوروبي حاليا)، تستطيع من خلاله الحفاظ على أسعار صرف عملاتها من خلال بَيع أو شراء عُملات الدول الاخرى الاعضاء، وبشكل جماعي. “بالنسبة لهذه الدول، كان الأمر أشبه بمعسكرٍ للتدريب على اليورو”، كما يقول جاكوب تانَّر، الأستاذ الفخري لمادة التاريخ في جامعة زيورخ، والذي يضيف: “لقد ظهرت هنا فكرة أن الطريقة الوحيدة للتغلب على حالة عدم اليقين المرافقة للتعويم هي من خلال إلغاء أسعار الصرف داخل كتلة مُستقرة، وهو ما تم ترسيخه لاحقاً في عام 1979 مع “النظام النقدي الأوروبي”.
لكن عملية الانضمام فشلت بسبب فرنسا، التي أرادت الحيلولة دون بروز تكتل من طرف البلدان ذات العملات الصعبة حول المارك الألماني، لأسباب ليس أقلها الانتقادات المُوجّهة للسرية المصرفية.
الصناعة وأسعار الصرف المرنة
قامت سويسرا بِطَرق باب الأوروبيين بسبب ارتفاع قيمة عملتها الوطنية بشكل كبير نتيجة لتعويمها – وهو ما لم يخلُ من العواقب بالنسبة لقطّاع التصدير. وكانت نسبة العمالة في القطاع الصناعي في سويسرا قد تقلَّصت بين عامي 1970 و1980، من 40% إلى 32%. وكان الفضل في عدم حدوث بطالة جماعية يعود فقط إلى إعادة العمال الأجانب إلى بلدانهم، وفَصْل النساء العاملات في وظائفه. وقد حَمَّلَت النقابات العمالية السياسة النَقدية المسؤولية الرئيسية عن هذا الانكماش.
مع ذلك، سيكون من الخطإ الادعاء بأن سويسرا أصبحت منطقة غير صناعية بمرور الوقت. وكما تشير الدلائل، فإن حصة شركات التصنيع في الناتج المحلي الإجمالي تزيد الآن قليلاً عن 25%، مُتقدمة بذلك على ألمانيا (24%)، وإيطاليا (22%)، وفرنسا (16%).
لكن ارتفاع سعر صرف الفرنك غيّر هيكل الإنتاج الصناعي. وكما يوضح تانَّر: “كانت القطّاعات الصناعية التي نَجَت في سويسرا في المقام الأول هي تلك التي تمكنت من الإفلات من المنافسة السعرية الشديدة. فلو قامت شركة مُصَنِّعة في منطقة ‘بيرنيز أوبرلاند’ بإنتاج صمّامات بأحدَث التقنيات مثلاً، فإن تضاعف سعرها لَنْ يُشكّل مشكلة كبيرة عندما تُستَخدَم في آلات تُكلِّف الملايين – لأن الجودة والخدمة الدولية هنا أكثر أهمية”.
شتراومانّ من جانبه يتبنى وجهة نظر مماثلة ويقول: “إن الضغط المستمر لتحسين القيمة يُجبر الاقتصاد على التخصُّص والابتكار”. لكنه يرى في الوقت نفسه خطرا في حقيقة أننا “قد لا ننتج في النهاية سوى المنتجات الفاخرة، مثل الساعات والمنتجات الصيدلانية المتخصّصة”.

زيادة نفوذ المصرف الوطني السويسري
مع ذلك، لم يعمل المصرف الوطني السويسري تماماً بدون مفهوم. ففي عام 1974، بدأت المؤسسة السويسرية في التنبؤ بإجمالي المعروض النقدي للعام المُقبل، الأمر الذي “مَنَحَ القدرة على توفير استقرار مُعين لأنه زَوَّد النمو الاقتصادي بالمال” بحسب شتراومانّ، لكن الفرنك السويسري استمر في الارتفاع بشكل كبير.
في العامين 1975/1976، انخفض الناتج المحلي الإجمالي لسويسرا بنسبة 7,15 %، وهو ما مثل رقماً قياسياً عالمياً حتى في أعوام السبعينيات المشحونة بالأزمات. وفي عام 1978، ارتفعت قيمة الفرنك السويسري بنسبة 30% مقابل الدولار في غضون تسعة أشهر.
يقول شتراومانّ: “لقد قلل فريدمان [وهو عالم اقتصاد أمريكي] من تقدير مدى تقلب أسعار الصرف. لقد اعتقدوا أن السوق سيُعدّل أسعار الصرف بعد ذلك بشكل مناسب. إنهم لم يتوقعوا تقلبات السبعينيات”.

في البداية، أرادوا اللجوء إلى الوصفات القديمة، مثل التحكم في تدفق رأس المال إلى سويسرا – لكن لم يكن لهذه الخطوة تأثير يذكر؛ لأنها لم تُضعف الدولار فحسب، ولكن المارك الألماني أيضاً، الذي كان عملة احتياطية للفرنك السويسري منذ فترة طويلة.
كان على المصرف الوطني السويسري أن يسلك طرقاً جديدة ويُبَلِّغ عن مبدأ توجيهي لأول مرة. تم شراء المارك الألماني بالفرنك وتغيير سعر الطلب. ما كان جديداً في ذلك الوقت هو الإعلان عن حد أدنى، وبحَسب شتراومانّ “كان الهدف هو الحصول على أكثر من 80 سنتيماً لكل مارك ألماني مرة أخرى، إلى أن يقبل تجار العملة ذلك”. لقد تم تقديم حد أدنى لسعر الصرف والدفاع عنه من خلال شراء العُمُلات – وهي استراتيجية استُخدِمَت لاحقاً بشكل مُتكرر.
رافق تعويم الفرنك السويسري، ظهور إمكانية وجود سياسة نَقدية مستقلة لأول مرّة، الأمر الذي  جعل المصرف الوطني السويسري لاعباً رئيسياً في منطقة لا رأي فيها للبرلمان. وكما يقول المؤرخ جاكوب تانَّر:”توجد هناك بالطبع أسباب وجيهة لوجود مصرف مركزي مستقل، فهذا يمنعه من أن يصبح ألعوبة للجمعيات والمصالح الخاصة”.
لكن المصرف الوطني السويسري ومنذ الانتقال إلى أسعار الصرف العائمة تحول من نادٍ حصري صغير إلى منظمة كبيرة لديها قسم أبحاث خاص بها. وهو يتحمل الآن مسؤولية ضخمة تتمثل بالسياسة الاقتصادية بأكملها. لذا، لا بد من إخضاعه للمُساءلة بشكل ديمقراطي، واستقلاله الرسمي عن الحكومة لا يحول دون ذلك”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى