اقتصاد كويتي

استقراء لدور «المركزي» في مواجهة اقتصاد عالمي شديد التقلب

وسط دعوات متكررة ل‍بنك الكويت المركزي إلى اقتفاء أثر قرارات «الفيدرالي» الأميركي برفع معدلات الفائدة، ظل «المركزي الكويتي» يتخذ قراراته بتأن وفق متغيرات الحالة الوطنية، التي يرصدها من علو لقراءة كل كبيرة وصغيرة وسط عالم متقلب اقتصاديا وجيوسياسيا، ليتخذوا قراراتهم في الوقت المناسب إعلاء لمبدأ واحد فقط، وهو سلامة وأمان الاقتصاد الكويتي، والحفاظ على مقدرات المواطنين والمقيمين.
وفي هذا الصدد، أثبت بنك الكويت المركزي قدرته على التعاطي مع جميع المتغيرات التي تعصف بالاقتصاد العالمي من أرض صلبة، حافظ من خلالها على معدلات نمو الاقتصاد الكويتي، ليظل منافسا وجاذبا بمستويات نمو مستقرة، مرتكزا في قراراته على عدة عوامل ومستهدفات تبدأ بخصوصية الاقتصاد الكويتي، وتأمين ثبات العملة المحلية (الدينار)، وضمان حرية تحويله إلى العملات الأخرى، وصولا إلى توجيه سياسة الائتمان بما يدعم التقدم على المستويين الاقتصادي والاجتماعي وزيادة الدخل القومي.
ويعمل «المركزي» على رسم وتنفيذ سياساته النقدية من خلال ضبط المتغيرات والمجاميع النقدية المرتبطة بتنامي معدلات الطلب المحلي، ومستويات السيولة، وحجم الائتمان، بما يعزز من دعائم الاستقرار النقدي والمساهمة بالتأني في الحد من الضغوط التضخمية، وتحقيق الاستقرار النسبي في المستوى العام للأسعار المحلية في البلاد. ويحقق «المركزي» مستهدفاته عبر تشكيلة متنوعة من أدوات السياسة النقدية، لكن يظل أبرزها نسبة الفائدة على الدينار، التي يستهدف من خلالها في الأساس امتصاص السيولة المرتفعة لدى الأفراد وإعادة توجيه سلوكهم نحو الادخار، مما يحقق هدفين رئيسيين، الأول يتمثل في الحفاظ على تنافسية وجاذبية العملة الوطنية كـ«وعاء للمدخرات»، وصولا إلى خفض معدلات التضخم. وفي إطار متابعة «المركزي» المتواصلة للأوضاع الاقتصادية محليا وعالميا، بالإضافة إلى التداعيات الجيوسياسية وتوجهات السياسة النقدية في الاقتصادات العالمية، قام خلال العام الماضي والشهر الأول من العام الحالي برفع سعر الخصم 8 مرات بنسب متفاوتة تتراوح بين 0.25 و0.5 نقطة مئوية في كل مرة مع إجراء تعديل بنسب متفاوتة في أسعار التدخل في السوق النقدي المطبقة حاليا على جميع آجال الفائدة، بما يشمل عمليات إعادة الشراء (الريبو) والسندات والتورق، ونظام قبول الودائع لأجل وأدوات التدخل المباشر بالإضافة إلى أدوات الدين العام. وبينما يتخذ «المركزي» قراراته باستقلالية تامة دون اقتفاء أثر «الفيدرالي» سواء لجهة معدل الزيادة في سعر الفائدة أو توقيتها، يبرز سؤال متكرر أمام العامة: «لماذا لا يواكب «المركزي الكويتي» الفيدرالي الأميركي في كل قراراته برفع معدلات الفائدة؟». وتكمن حقيقة عدم اللحاق المستمر من قبل «المركزي الكويتي» بنظيره الأميركي في أن بنك الكويت المركزي يدرك جيدا خصوصية الاقتصاد الوطني، وهنا يكون التعامل مع ملف سعر الخصم وفق فلسفة كويتية خاصة تعمل وفق نهج متدرج ومتأن ومدروس بما يتناسب مع السمات الهيكلية للاقتصاد الوطني ومعدلات النمو ومستويات التضخم ومؤشرات السيولة المحلية وحركة الودائع وأسعار الفائدة على الدينار الكويتي والعملات الأجنبية واتجاهاتها المتوقعة، مع الأخذ بعين الاعتبار فترات الإبطاء في أثر تغيرات سعر الفائدة على الاقتصاد المحلي بما يهدف إلى تعزيز البيئة الداعمة للنمو الاقتصاد المستدام لاسيما في القطاعات غير النفطية.
سعر الفائدة:- وخلال الفترة من منتصف مارس 2022 حتى 25 يناير الماضي، قام «المركزي» برفع سعر الخصم 8 مرات، إذ زادت الفائدة في الكويت بمقدار 2.5% فقط طول تلك الفترة، بعدما ارتفعت من 1.5% في 16 مارس 2022 إلى 1.75% ومن ثم وصلت إلى 4% في 25 يناير 2023. وبالنظر إلى مستويات الفائدة التي اعتمدها الفيدرالي الأميركي خلال الفترة ذاتها، فقد أسفرت اجتماعاته الدورية عن رفع معدلات الفائدة على الدولار منذ مارس 2022 حتى الأول من فبراير الجاري 8 مرات ارتفعت خلالها الفائدة بواقع 4.25% إذ زادت في مارس 2022 إلى 0.5% قياسا إلى 0.25% في يناير من العام ذاته، بينما وصلت أسعار الفائدة على الدولار لتتراوح بين 4.5% و4.75%. ولكن، يظل ظاهرا للعيان وجود تفاوت في توقيت اتخاذ القرار ومعدلات الفائدة بين الكويت وأميركا، وهو الأمر الذي يبين بوضوح استقلالية قرار «المركزي» إذ لا يحاول اللحاق بركب الفيدرالي، إنما ينظر بتمعن ويتخذ قراره وفقا لما يراه مناسبا وفي صالح الاقتصاد الوطني. وتعزيزا على ما تقدم، فإن قرارات «المركزي» ترتكز أيضا على معدلات التضخم والتي تشهد تفاوتا من دولة إلى أخرى، إذ إن معدل التضخم في الكويت يظل متدنيا وبمعدلات مستقرة، قياسا إلى الاقتصادات الكبيرة والتي شهدت معدلات متزايدة وقياسية من التضخم خلال 2022، وهو ما يدفع الكثير من الاقتصادات إلى اتخاذ قرارات برفع معدلات الفائدة بنسبة كبيرة تلاحق مثيلاتها لدى الفيدرالي الأميركي، بينما لا توجب على الكويت اتخاذ نفس المسار ويعطيها مساحتها الخاصة في هذا الجانب، وهو الأمر الذي يدركه جيدا بنك الكويت المركزي ويجيد استغلاله لصالح الكويت كافة. وتظهر الأرقام صحة القرارات المتخذة من قبل «المركزي» الكويتي وكذلك حصافة سياسته في عدم اقتفاء أثر «الفيدرالي الأميركي» ففي الفترة من مارس حتى نهاية سبتمبر 2022 حدث ارتفاع ملحوظ وغير مستقر في معدلات التضخم والتي وصلت إلى 8.2% لدى الولايات المتحدة، و10.1% في بريطانيا و10% في الاتحاد الأوروبي مقارنة بـ 3.19% بالكويت التي سجلت معدلات تضخم تنازلية بمستويات مستقرة، ما يعني أن البنوك المركزية الأخرى لديها ما يستدعي رفع معدلات الفائدة بتلك النسب، وأن المركزي الكويتي لديه مبرراته الخاصة والموضوعية في هذا الصدد. في السياق ذاته، ترتبط معدلات التضخم في الكويت بالبيئة الاقتصادية عامة، وبصفة خاصة اعتماد السوق المحلي على الاستيراد من الخارج بشكل أساسي في تلبية معظم الاحتياجات المحلية، الأمر الذي يجعل معدل أسعار المستهلكين محليا يرتبط بتطورات الأسعار العالمية للسلع المستوردة في بلد المنشأ، بالإضافة إلى التغير في أسعار هذه السلع نتيجة التقلبات في أسعار صرف عملات البلدان المستورد منها مقابل الدينار الكويتي، ولا يوجد لبنك الكويت المركزي تحكم مباشر في تلك المتغيرات إلا بالقدر الممكن وذلك عبر أدواته وسياساته التي تخفف من حدة التقلبات في أسعار الصرف في إطار تطبيق نظام ربط سعر صرف الدينار بسلة موزونة من العملات أثبتت فاعلياتها وجدارتها على مر السنين ليظل الدينار الكويتي العملة الأقوى في العالم.
وبناء على ذلك، يصبح من غير الجائز الحكم على مدى ملاءمة مستوى أسعار الفائدة على الدينار في السوق المحلي من خلال مقارنته بمستويات أسعار الفائدة بالاقتصادات الأخرى، حيث إن لكل اقتصاد معطياته وظروفه وهو ما يؤكده تباين أسعار الفائدة بين الدول المختلفة. وما يؤكد نجاح «المركزي» في سياسته النقدية، هو البيانات المصرفية التي تظهر بوضوح وجود اتجاه تصاعدي لإجمالي ودائع المقيمين لدى البنوك المحلية منذ أبريل 2021 على الرغم من أن سعر الخصم في بنك الكويت المركزي كان عند أدنى مستوياته بنحو 1.5% نتيجة السياسة التوسعية التي اتبعها البنك أثناء جائحة كورونا وبدأت في مارس 2020 واستمرت لعامين، ليثبت «المركزي» حينها حصافة قراراته ومدى مواءمتها مع خصوصية الاقتصاد الكويتي، ليستمر في قراراته المتأنية والمدروسة مع المتغيرات الاقتصادية الجديدة التي بدأت تظهر في تشديد السياسات النقدية عالميا ومحليا خلال 2022.

الودائع

وأثبتت قرارات «المركزي» التي اتخذها طوال العام المنصرم بشأن الفائدة نجاعتها وفاعليتها، إذ ارتفع إجمالي ودائع المقيمين بنحو 2.34 مليار دينار وبنسبة 5.3% مدفوعا بارتفاع كل من الودائع الحكومية بنسبة 18.2% بما قيمته 513.3 مليون دينار، وودائع القطاع الخاص بنسبة 6.6% بما قيمته 2.28 مليار دينار بنهاية شهر ديسمبر الماضي مقارنة بديسمبر السابق عليه وفي مقابل ذلك انخفضت ودائع المؤسسات العامة بنحو 454.6 مليون دينار وبنسبة 6.3%. وشكل متوسط نسبة إجمالي ودائع القطاع الخاص «المقيم» إلى إجمالي الودائع في البنوك المحلية للمقيمين نحو 77% خلال 2022 وتلاه متوسط إجمالي ودائع المؤسسات العامة بنسبة بلغت نحو 15.6% وإجمالي الودائع الحكومية بنسبة بلغت 7.4% كما يمثل متوسط نسبة ودائع القطاع الخاص بالدينار نحو 73.5% من إجمالي ودائع المقيمين في البنوك المحلية وبمتوسط نبته 95.35 من إجمالي ودائع القطاع الخاص المقيم خلال الفترة نفسها. وبلغ إجمالي أرصدة القطاع الخاص المحررة بالدينار الكويتي للمقيمين وغير المقيمين بالبنوك المحلي نحو 37.5 مليار دينار في نهاية ديسمبر 2022 بزيادة 194 مليون دينار قياسا إلى الشهر السابق عليه، وهو الأمر الذي يثبت استمرارية جاذبية الدينار كوعاء للمدخرات، ناهيك عن أن أرصدة ودائع القطاع الخاص المحررة بالدينار للمقيمين وغير المقيمين من دون فوائد بلغت 10.9 مليارات دينار بنسبة 29.1% من إجمالي الأرصدة، بينما الودائع بفوائد حتى 2% بلغت نحو 11.47 مليار دينار بنسبة 30.6% من الأرصدة.

وخلال الفترة من نهاية أبريل 2022 وحتى نهاية ديسمبر من العام ذاته والتي اتبع فيها سياسة نقدية تشديدية، سجلت كل من الودائع من دون فوائد وبفوائد حتى 2% وبفوائد أكبر من 2% وحتى 2.5% انخفاضا، بينما كانت أعلى قيمة في الارتفاع بالودائع ضمن شريحة الفوائد أكبر من 2 وحتى 3.5% حيث بلغت قيمة الزيادة نحو 3.97 مليارات دينار وبنسبة 1605.6% يليها الودائع ضمن شريحة الفوائد أكبر من 3.5 وحتى 4% بارتفاع بلغت قيمته نحو 3.49 مليارات دينار وبنسبة 14904.1%.

إلى ذلك فقد حافظ «المركزي» على نمو «الائتمان» إذ ارتفع 8.6% بـ 4.16 مليارات دينار ليبلغ مستوى 52.44 مليار دينار.

القروض.. نمو متزايد

على الرغم من المتغيرات الاقتصادية القاسية التي يشهدها العالم، فإن سياسة «المركزي» ضمنت للقطاع المصرفي الكويتي استمرار نمو معدلات الائتمان بصورة مستقرة، وهو ما أظهرته البيانات النهائية عن حجم الائتمان في 2022، والتي جاء مفادها بنمو الائتمان الممنوح من البنوك خلال 2022 بنسبة 8.6% ليبلغ مستوى 52.44 مليار دينار، مقارنة بـ 48.3 مليار دينار بنهاية عام 2021، ما يعني ان البنوك المحلية قد منحت قروضا وتسهيلات ائتمانية بقيمة 4.16 مليارات دينار خلال العام الماضي كاملا على الرغم من ارتفاع تكلفة الاقتراض. وشهدت القروض الاستهلاكية الموجهة لشراء سلع معمرة وسيارات، ارتفاعا بنهاية 2022 بنسبة 6.6% وبقيمة 122 مليون دينار لتصل إلى 1.96 مليار دينار، مقارنة بـ 1.845 مليار دينار بنهاية 2021، أما القروض المقسطة فشهدت قفزة خلال 2022 بنسبة 9.38% وبقيمة 1.35 مليار دينار، لتسجل مستوى 15.74 مليار دينار بنهاية العام، بالمقارنة بـ 14.39 مليار دينار بنهاية 2021.

وشهدت القروض الموجهة لشراء أوراق مالية ارتفاعا خلال العام الماضي 2022 بنسبة 15.15% وبقيمة 433 مليون دينار لتسجل مستوى 3.29 مليارات دينار بنهاية ديسمبر الماضي مقارنة بـ 2.86 مليار دينار بنهاية ديسمبر من عام 2021، كما شهدت أيضا قروض البنوك ارتفاعا خلال العام الماضي 2022 بنسبة 12.8% وبقيمة 379 مليون دينار لتسجل مستوى 3.34 مليارات دينار بنهاية ديسمبر الماضي مقارنة بـ 2.96 مليار دينار بنهاية ديسمبر من عام 2021.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى