مختارات اقتصادية

البرازيل والأرجنتين وعملة موحدة .. حقيقة قابلة للتحقيق أم أضغاث أحلام؟

فور إعلان البرازيل والأرجنتين سعيهما لتدشين عملة مشتركة تحت اسم «سور» أو ما معناه «الجنوب» باللغة البرتغالية تباينت ردود أفعال خبراء الاقتصاد بين ما إذا كان ذلك مشروعا قابلا للتحقيق أم مجرد حلم ما زال الطريق أمامه طويلا وقد لا يتحول إلى واقع ملموس على الإطلاق.
وإطلاق الخطة بين أكبر اقتصادين في أمريكا الجنوبية يعطيها زخما خاصة بالنسبة لبقية دول القارة. ويقول مسؤولون إن التركيز الأولي سينصب على الكيفية التي يمكن بها للعملة الجديدة أن تعزز التجارة الإقليمية وتقلل الاعتماد على الدولار الأمريكي وأنها ستعمل بالتوازي مع الريال البرازيلي والبيزو الأرجنتيني.
الفكرة جذابة:- للوهلة الأولى تبدو الفكرة جذابة، فبحسب تقديرات صحيفة «فايننشال تايمز»، فإنه حال تأسس اتحاد عملة يضم دول أمريكا اللاتينية فإنه سيمثل نحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وبالمقارنة، يشكل اليورو، أكبر اتحاد نقدي في العالم، حوالي 14% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي عند قياسه بالدولار.
وتشمل تكتلات العملات الأخرى في العالم مثل الفرنك الإفريقي الذي تستخدمه بعض الدول الإفريقية والمربوط باليورو، ودولار شرق الكاريبي. لكن كليهما يضمان شريحة أصغر بكثير من حجم الاقتصاد العالمي.
لكن فيما يبدو فإن الفكرة التي أطلقها الرئيسان البرازيلي «لولا دا سيلفا» والأرجنتيني «ألبرتو فرنانديز» في مقال رأي نشراه في وقت سابق من الشهر الجاري تبدو أعقد حين تنتقل على ألسنة المعنيين بالاقتصاد.
وقال وزير الاقتصاد الأرجنتيني «سيرجيو ماسا» إنه سيكون هناك «قرار لبدء دراسة المعايير اللازمة لعملة مشتركة، والتي تشمل كل شيء من المسائل المالية إلى حجم الاقتصاد ودور البنوك المركزية… ستكون دراسة لآليات التكامل التجاري. لا أريد أن أعطي أي توقعات خاطئة… إنها الخطوة الأولى في طريق طويل يتعين على أمريكا اللاتينية قطعه».
ولاحقا وخلال القمة السابعة لمجموعة دول أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي «سيلاك»، التي تضم 33 دولة، والتي انعقدت في بوينس آيرس جرى الكشف عن تفاصيل أكبر هونت من شأن الخطة.
ويقول خبراء إنه لا توجد خطط لاتحاد نقدي بين البلدين في الوقت الحالي، بدلا من ذلك يريد البلدان المضي قدما في محادثات حول تطوير وحدة حساب مشتركة تهدف إلى تسهيل التجارة. وستعمل وحدة القيمة الجديدة على جعل تجارة البلدين أكثر كفاءة وتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي. بالطبع من المرجح أن يستغرق المشروع سنوات عدة حتى يؤتي ثماره، ويشير «ماسا» في هذا الصدد إلى أن إقامة منطقة اليورو استغرق 35 عاما. وناقش سياسيون من البلدين المشروع بالفعل في 2019 لكنه تعثر بسبب معارضة البنك المركزي البرازيلي، لكن الآن بعد أن حكم البلدين زعيمان ينتميان إلى اليسار السياسي بات هناك دعم سياسي أكبر. وتزدهر حركة التجارة بين البرازيل والأرجنتين، حيث بلغت 26.4 مليار دولار في أول 11 شهرا من العام الماضي بزيادة 21% مقارنة مع نفس الفترة من 2021. ويمثل البلدان القوة الدافعة وراء تكتل التجارة الإقليمي لميركوسور والذي يشمل باراغواي وأوروغواي.
اختلاف الأوضاع الاقتصادية:- يقول الخبراء إن اختلاف الأوضاع الاقتصادية في البلدين مؤشر على أن الفكرة تبدو صعبة التطبيق.
ففي الأرجنتين، تبدو الصورة قاتمة. يقترب التضخم السنوي في البلاد من 100 بالمئة وهو من بين الأعلى في العالم ويطبع البنك المركزي المزيد من الأموال لتمويل الإنفاق وعجز الميزانية. ويعيش ما يقرب من أربعة من كل عشرة أشخاص في دائرة الفقر. وخلال السنوات الثلاث الأولى من حكم الرئيس «ألبرتو فرنانديز» تضاعف مقدار الأموال المتداولة بشكل عام أربعة أمثال، وفقا لبيانات البنك المركزي، وأصبحت قيمة أكبر ورقة نقد بالبيزو أقل من ثلاثة دولارات بحسب سعر الصرف في السوق الموازية المستخدم على نطاق واسع. وجرى عزل الأرجنتين لسنوات عن أسواق الديون الدولية بعد أن تخلفت عن سداد ديون للمرة التاسعة في عام 2020 ولا تزال مدينة بأكثر من 40 مليار دولار لصندوق النقد الدولي منذ تطبيق خطة الإنقاذ في عام 2018.
كما أن خزائن النقد الأجنبي في الأرجنتين شبه فارغة، وتمنع ضوابط حكومية صارمة الأرجنتينيين من شراء الدولار. وهناك نحو عشرين سعر صرف مختلف للدولار لدرجة أن أحد هذه الأسعار ينشر يوميا في الصحف.
أما في البرازيل، فالوضع مختلف مما يجعل الخبراء يرجحون أن يكون هناك قلق من فكرة ربط أكبر اقتصاد في القارة باقتصاد جارتها المتقلب بشكل دائم. فالبرازيل تتبنى سعر صرف عائماً وبنكها المركزي مستقل. وتمتلك أكثر من 300 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي ويصل فيها معدل التضخم إلى ما يقل عن 6%.
ويقول الخبراء إنه لا توجد سوق مشتركة بين البلدين ولا حتى منطقة تجارة حرة. وفي السوق المشتركة الجنوبية، وهي تكتل التجارة الحرة الإقليمية المعروف باسم ميركوسور، تخضع العديد من الواردات لرسوم جمركية مرتفعة.
وحتى الصورة في البرازيل لا تبدو مثالية للغاية. إذ تتعامل البلاد مع ارتفاع حاد في أسعار الفائدة ومن المتوقع أن تواجه تباطؤا حادا في النمو هذا العام. ووفقا لتقديرات البنك الدولي، سينمو اقتصادها 0.8% فقط في 2023 انخفاضا من 3% في 2022. كما أن التضخم تجاوز المستوى المستهدف من البنك المركزي في 2022 وذلك للعام الثاني على التوالي. وتخلى الريال البرازيلي عن نصف قيمته مقابل الدولار منذ 2014 قبل أن تغرق البلاد في أكبر ركود لها منذ قرن. ولم تسجل البرازيل فائضا أوليا منذ 2013.
اتفاق على الأهمية وخلاف على التطبيق:- يرى «ألفريدو سيرانو» الاقتصادي الإسباني الذي يدير مركز الفكر السياسي الإقليمي «سيلاج» في بوينس آيرس أن آليات النقد والعملات الأجنبية شديدة الأهمية لدول أمريكا اللاتينية. وقال «هناك احتمالات اليوم في أمريكا اللاتينية نظرا لقوة اقتصاداتها، لإيجاد أدوات بديلة للاعتماد على الدولار. ستكون خطوة مهمة للغاية إلى الأمام»
لكن ثمة انتقادات، فمن جانبه قال الاقتصادي البرازيلي – الأرجنتيني «فابيو جيامبياجي»: إنه «مضيعة للوقت». وأضاف أن فشل الحكومات في التخطيط على نحو أفضل لاقتصاداتها، إلى جانب اختلاق الأوضاع الاقتصادية، يمنع تطوير مشروع جاد للعملة في الوقت الحالي.
ويقول الخبراء إن هناك اختلافات في السياسات المالية والنقدية بين البلدين، وإن هناك أسباباً سياسية لا اقتصادية في الواقع تدفع الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا لإحياء مشروع العملة الموحدة وهو أنه بعد انتخابه مؤخرا يريد المضي قدما في تحقيق اندماج في القارة لزيادة الوزن الجيوسياسي لأمريكا اللاتينية على غرار ما فعله خلال فترتي ولايته الأولى في المنصب.
وقال «وين ثين» الرئيس العالمي لاستراتيجية السوق لدى «براون براذرز هاريمان» إن الحديث في هذا الشأن عاد للظهور لأن اليساري دا سيلفا حليف سياسي أكبر لفرنانديز أكثر من سلفه «جاير بولسونارو».
ويقول المحللون إن التكامل الاقتصادي الأكبر في أمريكا الجنوبية أمر إيجابي بشكل عام، لكن بدلا من دفع مشاريع البنية التحتية واتفاقات التجارة الحرة، تسعى دول القارة إلى تنفيذ الخطوة الثالثة ألا وهي اتحاد العملة قبل الخطوة الأولى.
من جانبه، تشكك الخبير الاقتصادي العالمي «محمد العريان» في الأمر وكتب على تويتر تعليقا على الخبر «ليس لدى أي من البلدين الشروط الأولية اللازمة لإنجاح ذلك وجذب الآخرين».
وأضاف «أفضل ما يمكن أن تأمله من هذه المبادرة هو أن يخلق الحديث بعض الغطاء السياسي للإصلاحات الاقتصادية التي تشتد الحاجة إليها».

 

في الوقت ذاته يقول مراقبون إن هناك دوافع منطقية وراء طرح الفكرة منها تضرر الأسواق الناشئة بشدة بفعل قوة الدولار الأمريكي مما أثار شكاوى بشأن هيمنته على النظام المالي العالمي.

 

وارتفع الدولار نحو 8% مقابل سلة من العملات الرئيسية في 2022 مما رفع تكلفة واردات الغذاء والطاقة وتكلفة خدمة الديون المقومة بالدولار بما في ذلك في الأرجنتين. ويستخدم البنك المركزي احتياطياته من الدولار لسداد الديون الخارجية والتدخل في سوق العملات لوقف انخفاض العملة المحلية وبالتالي فهو لا يرغب في بيع الدولار للمستوردين من أجل التجارة.

 

على الرغم من ذلك يتشكك المستثمرون في أن جهود تدشين عملة مشتركة في أمريكا اللاتينية ستكسب زخما. وقال «ثين» إنه لا يعتقد أن المشروع سيمضي إلى أي مكان وأضاف «بالنسبة للبرازيل والأرجنتين، يبدو حقا جسرا بعيدا».

 

وقال «حسنين مالك» رئيس أبحاث الأسهم لدى «تيليمر» في مذكرة اقتصادية إن اختلاف الأوضاع الاقتصادية سيجعل من الصعب للغاية على البلدين الوصول إلى نفس المكان.

 

وقال «إن البرازيل والأرجنتين بعيدتان عن التقارب في السياسة الاقتصادية والأداء المطلوب لإطلاق اتحاد نقدي».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى