مختارات اقتصادية

مراجعة كتاب: القوة والتقدم .. لماذا يجب تحدي فرضية التقدم التكنولوجي؟

هناك مقولة حكيمة للفيلسوف الأمريكي جورج سانتايانا مفادها: “أولئك الذين لا يستطيعون التعلّم من التاريخ محكوم عليهم بتكراره”.

 

والآن، بعد 118 عامًا، يأتي اقتصاديان أمريكيان بنفس الرسالة، فقط مع إضافة بسيطة، لأنهما يخاطبان عالمًا ينشغل فيه عدد قليل من الشركات العملاقة في الترويج لسردية مفادها أن ما هو مربح بالنسبة لهم هو أيضًا جيد للعالم.

 

من الواضح أن هذه السردية تخدم مصالحهم الشخصية، كما أن رسالتها الضمنية: يجب السماح لهم بالمضي قدمًا في عاداتهم المتمثلة في “التدمير الإبداعي” دون أن يتم إزعاجهم أو عرقلة مسيرتهم.

 

بيد أن عمالقة الشركات اليوم يستخدمون التقنيات الجديدة بطرق من شأنها تدمير مستقبلنا الجماعي. لأن معظم قادة التكنولوجيا في الولايات المتحدة يستمرون في الإنفاق بشكل كبير لتطوير البرمجيات القادرة على القيام بما يقوم به البشر بالفعل.

– يركز الجميع على الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لخفض تكاليف العمالة، وغض الطرف عن تجربة العملاء المباشرة وعن مستقبل القوة الشرائية الأمريكية.

 

– وفقًا لهذه السردية، فإن أي حكومة تحاول كبح سلطة الشركات عليها أن تتذكر أنها ستقف بعد ذلك في طريق “التقدم” لأن التكنولوجيا هي التي تدفع مسيرة التقدم وأي شيء يعوق هذه المسيرة محكوم عليه بالهلاك.

 

– في كتاب “القوة والتقدم” الشامل والمقنع، يرفض الاقتصاديان الأمريكيان دارون أسيموغلو وسيمون جونسون أي فكرة عن الحتمية التكنولوجية ويستكشفان كيف يمكن للبلدان تشكيل التكنولوجيا لخلق مجتمعات أكثر إنسانية.

 

– لعل أحد الفوائد العديدة لهذا المجلد الهائل (560 صفحة) هو هدمه لمعادلة السرد المريحة للتكنولوجيا مع “التقدم”.

 

– بالطبع حقيقة أن حياتنا أكثر ثراءً وراحة بلا حدود من حياة الإقطاعيين التي كنا سنعيشها في العصور الوسطى تدين بالكثير للتقدم التكنولوجي.

 

– حتى الفقراء في المجتمعات الغربية يتمتعون اليوم بمستويات معيشة أعلى بكثير مما كانوا عليه قبل ثلاثة قرون، ويعيشون حياة أطول وأكثر صحة.

 

– لكن تُظهر دراسة عن الألف عام الماضية من التنمية البشرية، كما يقول أسيموغلو وجونسون، أن الازدهار واسع النطاق في الماضي لم يكن نتيجة لأي مكاسب تلقائية مضمونة للتقدم التكنولوجي.

 

– في حقيقة الأمر، معظم الناس في جميع أنحاء العالم اليوم أفضل حالًا من أسلافنا لأن المواطنين والعمال في المجتمعات الصناعية السابقة نظموا وتحدوا الخيارات التي تهيمن عليها النخبة حول التكنولوجيا وظروف العمل، وفرضوا طرقًا لتقاسم المكاسب من التحسينات التقنية بشكل أكثر إنصافًا.

 

– يبدأ المؤلفان جولة في الألفية الماضية لحل لغز كيفية تأسيس السرديات المهيمنة – مثل تلك التي تساوي بين التطور التكنولوجي والتقدم.

 

– وخلص المؤلفان إلى قناعة أن أولئك الذين لديهم السلطة يحددون السردية من وجهة نظرهم. هذه هي الطريقة التي يُنظر بها إلى البنوك على أنها “أكبر من أن تفشل”، أو “لماذا يُعد التشكيك في قوة التكنولوجيا أمراً رجعياً ومتخلفاً”.

 

– لكن مسحهما التاريخي يبدأ بالفعل من العصر الحجري الحديث إلى العصور الوسطى وأوائل العصور الحديثة.

 

– ووجدا أن التطورات المتعاقبة تميل إلى إثراء وتمكين النخب الصغيرة مع منح النزر الضئيل من الفوائد للعمال الزراعيين.

 

– وهكذا افتقر الفلاحون إلى القوة السياسية والاجتماعية، واتبع مسار التكنولوجيا رؤية النخبة الضيقة.

 

– وهنا تتجلى أهمية تنمية وتمكين القوى التعويضية، من منظمات المجتمع المدني والناشطين والنسخ المعاصرة للنقابات العمالية.

 

– يتم استخلاص رؤى مماثلة من إعادة تفسير المؤلفينِ للثورة الصناعية. حيث يسلطانِ الضوء على ظهور طبقة متوسطة حديثًا من رواد الأعمال الذين نادراً ما تضمنت رؤيتهم أي أفكار للإدماج الاجتماعي والذين كانوا مهووسين بإمكانيات الأتمتة المدفوعة بالبخار لزيادة الأرباح وخفض التكاليف.

 

– أدت صدمة الحرب العالمية الثانية إلى انقطاع مفاجئ في الاتجاه الحتمي للتطور التكنولوجي المستمر جنبًا إلى جنب مع زيادة الاستبعاد الاجتماعي وعدم المساواة.

 

– وشهدت سنوات ما بعد الحرب صعود الأنظمة الديمقراطية الاجتماعية التي ركزت على الاقتصاد الكينزي – نسبةً إلى عالِم الاقتصاد الإنجليزي جون ماينارد كينز – ودول الرفاهية والازدهار المشترك.

 

– لكن كل هذا تغير في السبعينيات مع التحول النيوليبرالي والتطور اللاحق للديمقراطيات اليوم، حيث تقدم الحكومات الضعيفة فروض الطاعة والولاء للشركات العملاقة، وهي أكثر قوة وربحية منذ شركة الهند الشرقية.

 

– تخلق هذه الكيانات العملاقة ثروة مذهلة لنخبة صغيرة (ناهيك عن الرواتب والمكافآت الفخمة لمديريها التنفيذيين) بينما تظل الدخول الحقيقية للأشخاص العاديين راكدة.

 

– يصل هذا الكتاب إلى لحظة حاسمة، عندما تزدهر التكنولوجيا الرقمية، التي تشهد حاليًا موجة من الوفرة غير العقلانية في كل مكان، في حين تبدو فكرة الرخاء المشترك على ما يبدو حلمًا حزينًا.

 

– هناك أشياء يمكن تعلمها من التاريخ الذي رواه المؤلفان بشكل بياني، ويمكن العثور عليها في الفصل الختامي.

 

– يذكر الفصل الأخير وصفة ناجعة من الخطوات الحاسمة التي يجب على الديمقراطيات اتخاذها لضمان مشاركة عائدات الموجة التكنولوجية القادمة بشكل عادل بين سكانها.

 

هناك 3 خطوات يجب أن تقوم بها حركة تقدمية حديثة:

 

أولاً، يجب تحدي سردية التقدم المساوي للتكنولوجيا والكشف عن حقيقتها: وهي خرافة تنشرها صناعة ضخمة ومعاونوها في الحكومة ووسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية (في بعض الأحيان).

ثانيًا، الحاجة إلى تنمية وتعزيز القوى التعويضية – والتي يجب أن تشمل بشكل حاسم منظمات المجتمع المدني والناشطين والنسخ المعاصرة من النقابات العمالية.

وأخيرًا، هناك حاجة إلى مقترحات سياسات تقدمية ومستنيرة تقنيًا، وتعزيز مراكز الفكر والمؤسسات الأخرى التي يمكنها توفير تدفق هائل ومستمر للأفكار حول كيفية إعادة استخدام التكنولوجيا الرقمية للازدهار البشري بدلاً من الربح الخاص.

 

في الختام، لا شيء من هذه الخطوات صعب أو لا يمكن تنفيذه. ويجب القيام بها إذا كان للديمقراطيات الليبرالية أن تنجو من الموجة التالية من التطور التكنولوجي والتسارع الكارثي لعدم المساواة الذي ستجلبه في طياتها.

 

إذا من يعلم؟ ربما هذه المرة قد نتعلم حقًا شيئًا من التاريخ.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى