أخبار عاجلةاقتصاد دوليمقالات اقتصادية

أزمة “الفيدرالي” التالية تغلي تحت سطح سندات الخزانة

كتب أسامة صالح

تعرضت الأسواق لعدة ضربات في الأسابيع الأخيرة أولاً بسبب الحديث عن أن تراخي سوق العمل سيسمح للاحتياطي الفيدرالي الأميركي “بالتراجع” عن حملته القوية لرفع أسعار الفائدة، ثم من خلال التعليقات الصادرة عن محافظي البنوك المركزية بأن أي خطوة من هذا القبيل ستكون سابقة لأوانها، وهو ما أكده تقرير مؤشر أسعار المستهلكين المدوي الذي صدر الخميس الماضي. لكن ربما يكون هناك حل من شأنه السماح للفيدرالي بمواصلة محاربة التضخم مع معالجة ما أصبح سريعاً أزمة محتملة في سوق سندات الخزانة الأميركية، التي تعتبر أهم سوق في العالم.

لا يعد استخدام وصف “أزمة” هنا من قبيل المبالغة، فالسيولة تتبخر بسرعة، والتقلبات آخذة في الارتفاع، حتى الطلب في مزادات الديون الحكومية أصبح مصدر قلق، وهو أمر لم يتصوره أحد من قبل.

كما أن الظروف مقلقة للغاية لدرجة أن وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، اتخذت خطوة غير عادية الأربعاء الماضي بالتعبير عن قلقها إزاء الانهيار المحتمل للتداول، وقالت بعد إلقاء خطاب في واشنطن إن وزارتها “قلقة بشأن فقدان السيولة الكافية” في سوق الأوراق المالية الأميركية البالغ قوامها 23.7 تريليون دولار. وهي على حق فيما تقوله، لأنه إذا تعطلت سوق سندات الخزانة في الولايات المتحدة؛ سيواجه الاقتصاد العالمي والنظام المالي مشاكل أكبر بكثير من التضخم المرتفع.

لكن بدلاً من إبطاء أو حتى إيقاف وتيرة زيادات أسعار الفائدة -وهو أمر قد يعيد إحياء فكرة أن هناك بالفعل مستوى أسعار مستهلكين منخفض قد يتدخل عنده بنك الاحتياطي الفيدرالي لإنقاذ المستثمرين- يمكن للمركزي الأميركي أن يختار إبطاء “التشديد الكمي”، ويبدأ في “التيسير الكمي”، الذي يضخ بموجبه السيولة في النظام المالي من خلال مشتريات السندات، وهو إجراء ذا تأثير معاكس للتشديد الكمي.

وعوضاً عن بيع السندات، يسمح “الفيدرالي” لسندات الخزانة الأميركية والأوراق المالية للرهن العقاري -اللتين تناهز قيمتهما 9 تريليونات دولار وتتراكما بميزانيته العمومية منذ الأزمة المالية في 2008- بأن تصلا إلى آجال استحقاقهما دون استبدالهما، حيث تسارع التشديد الكمي الذي يقوده بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى الحد الأقصى البالغ 95 مليار دولار شهرياً في سبتمبر مقارنة بـ47.4 مليار دولار من قبل.

المشكلة انه لا يوجد دليل قوي على أن اتباع التيسير الكمي لسنوات عديدة أثمر عن التأثير المرغوب في تحفيز التضخم، فمن غير المرجح أيضاً أن يساعد التشديد الكمي في تخفيف التضخم. وإنما السيناريو الأقرب حدوثاً – وربما يكون موجوداً الآن بالفعل – هو إحداثه لفوضى في سوق السندات الحكومية، التي تعد المعيار المرجعي لجميع الأسواق الأخرى التي تحدد تكلفة الاقتراض للحكومات والشركات والمستهلكين.

يُظهر مؤشر بلومبرغ أن السيولة في سوق سندات الخزانة أسوأ الآن مما كانت عليه خلال الأيام الأولى للوباء وعمليات الإغلاق، عندما عجز الجميع عن التوقع. وبالمثل، فإن التقلب الضمني الذي يُقاس بواسطة مؤشر بورصة إنتركونتيننتال وبنك أوف أميركا “موف” (MOVE) يقترب من أعلى مستوياته منذ 2009.

في تطور غير عادي يُبرز مدى الاختلال الذي أصاب سوق سندات الخزانة، إذ تم تداول الأوراق المالية الأحدث والأكثر سيولة، والمعروفة باسم “السندات الجارية المتداولة” بسعر مُخفض مقارنة بنظيرتها الأقدم والأكثر صعوبة في تداولها، وفقاً للبيانات التي جمعتها بلومبرغ. كما أصبحت التقلبات اليومية في عقود مبادلات أسعار الفائدة حادة للغاية، مما يبرهن بصورة أكبر على اختفاء السيولة.

أكثر ما يجب أن يثير قلق الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة هو تدهور الطلب في مزادات الديون الأميركية. ففي المزاد الحكومي المنعقد الأربعاء الماضي لسندات ميعارية ذات أجل 10 سنوات بقيمة 32 مليار دولار ارتفع مؤشر رئيسي يسمى “نسبة العرض إلى التغطية” عن الانحراف المعياري القياسي الذي يساوي (1)، وهو أقل من متوسط العام الماضي، وفقاً لـ “بلومبرغ نيوز”.

كما تراجع مقياس الطلب من مقدمي العروض غير المباشرين، الذي يُنظر إليه عموماً على أنه مؤشر للطلب الأجنبي، إلى أدنى مستوياته منذ مارس 2021، حسب البيانات التي جمعتها بلومبرغ. ورغم أن وزارة الخزانة غير مهددة بخطر المعاناة من “مزاد فاشل”، إلا أن انخفاض الطلب يعني أن الحكومة تدفع أموالاً أكثر مقابل الاقتراض.

يتزامن كل هذا مع ما نشرته “بلومبرغ نيوز” حول أن كبار مشتري سندات الخزانة وأقواهم -بداية من صناديق المعاشات اليابانية وشركات التأمين على الحياة حتى الحكومات الأجنبية والبنوك التجارية الأميركية- يتراجعون جميعاً في الوقت نفسه.

قال غلين كابيلو، الذي أمضى أكثر من 3 عقود بمكاتب تداول السندات في وول ستريت ويشغل الآن منصب المدير الإداري في شركة “ميشلر فاينانشيال” (Mischler Financial) لبلومبرغ نيوز: “”نحتاج إيجاد مشترين جدد ذوي هوامش عالية لسندات الخزانة مع تخارج البنوك المركزية والمصارف عموماً من السوق حالياً”.

سوق السندات الأميركية، التي تحدد وتيرة أسواق الديون في جميع أنحاء العالم، لا تعاني بمفردها من ذلك، حيث كشفت اضطرابات سندات الخزانة البريطانية في الأسبوعين الماضيين عن أزمة السيولة التي تغلي في معظم أسواق السندات السيادية الكبرى. من وجهة نظر بنك الاحتياطي الفيدرالي، ربما يكون متردداً في تغيير سياسة التشديد الكمي خوفاً من أن يُنظر إليه على أنه مهتم أكثر بإنقاذ الشركات الكبيرة في وول ستريت من ترويض التضخم.

مخاوف انهيار سندات الخزانة
لكن مرة أخرى ثبت أن التيسير والتشديد الكميين لهما تأثير أكبر على الأداء السلس للنظام المالي أكثر من الاقتصاد الحقيقي. ولن تكون هذه المرة الأولى لو عدل بنك الاحتياطي الفيدرالي برنامجه للتشديد الكمي لمعالجة الاضطرابات في قلب السوق. ففي 2019 أوقف المركزي الأميركي التشديد الكمي وأغرق النظام المصرفي بالنقود لوقف الارتفاع الكبير والمزعج في معدلات إعادة الشراء الذي أدى إلى ضغوط لا داعي لها.
هناك خيار آخر وهو أن يستخدم الاحتياطي الفيدرالي تسهيلات إعادة الشراء الدائمة الخاصة به لتوفير دعم للسيولة في سوق سندات الخزانة، وهو ما قالت يلين إنه “قد يكون مفيداً”.

ختاماً يعتقد المشاركون في السوق أن الاحتياطي الفيدرالي سيواصل رفع أسعار الفائدة حتى “ينهار” شيء ما. يبدو بشكل متزايد أن هذا الشيء سيكون سوق سندات الخزانة، ويعد ذلك السيناريو الأسوأ على الإطلاق وفق مقاييس أي شخص. والوقت ينفد أمام “الفيدرالي” للتحرك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى