مختارات اقتصادية

اضطراب مصرفي وانخفاضات قياسية .. كيف يتحرك مسار الودائع في البنوك الأمريكية؟

يثير وضع الودائع في البنوك الأمريكية حالة من القلق بعد انهيارات مصرفية متتالية لعدد من البنوك المحلية، ما أثار أزمة ثقة في القطاع المصرفي بين الجمهور العام وفي ظل تحذيرات من مستثمرين مخضرمين أمثال «وارن بافيت» من أن الأزمة لم تنته بعد.
أدنى مستوى في عامين:- تظهر بيانات أصدرها مجلس الاحتياطي الفيدرالي -البنك المركزي الأمريكي- أوائل مايو الجاري أن الودائع في البنوك التجارية تراجعت في نهاية أبريل لأدنى مستوياتها في نحو عامين، بينما ارتفع إجمالي الائتمان المقدم من البنوك.
وانخفضت الودائع على أساس غير معدل في ضوء العوامل الموسمية في الأسبوع المنتهي في 26 أبريل إلى حوالي 17.1 تريليون دولار، بتراجع قدره 120 مليار دولار عن الأسبوع السابق. والمستوى هو الأدنى منذ يونيو 2021. والودائع منخفضة حاليا بأكثر من 500 مليار دولار عن الأسبوع السابق على انهيار «سيليكون فالي بنك» في مارس.
وبعد خروج قياسي للودائع من البنوك الأمريكية عقب انهيار بنكي «سيليكون فالي» و»سيجنتشر» الأصغر حجما في غضون أيام من انهيار الأول، استقرت الودائع في أوائل أبريل لتستعيد نشاطها بعد ذلك في منتصف الشهر وهي فترة تشهد عادة تدفقات كبيرة خارجة من الحسابات مع اقتراب موسم الإفصاح الضريبي السنوي من نهايته في الولايات المتحدة. وفي البنوك الأمريكية الكبيرة، انخفضت الودائع إلى 10.54 تريليون دولار من 10.61 تريليون في الأسبوع السابق على أساس غير معدل في ضوء العوامل الموسمية. وبلغ إجمالي الودائع في البنوك الصغيرة 5.32 تريليون دولار مقارنة مع 5.43 تريليون دولار.
في الوقت ذاته، لم يُظهر إجمالي الائتمان المقدم من النظام المصرفي الانكماش الذي توقعه العديد من الاقتصاديين وصانعي السياسات بعد اضطراب النظام مؤخرا والزيادات الكبيرة في أسعار الفائدة من جانب مجلس الاحتياطي الاتحادي خلال العام الماضي.
فقد ارتفع إجمالي الائتمان المصرفي إلى 17.37 تريليون دولار بنهاية أبريل بقيادة زيادة في القروض ونشاط الرهن العقاري إلى مستوى قياسي عند 12.11 تريليون دولار على أساس غير معدل في ضوء العوامل الموسمية من 12.07 تريليون في الأسبوع السابق.
وتظل أعين المراقبين مركزة على الودائع والقروض في البنوك بعد ثاني وثالث أكبر انهيارين في تاريخ البنوك الأمريكية، حيث أشارت تقديرات صادرة عن «جيه.بي مورجان» أنه من المرجح أن تكون البنوك الأمريكية «الأكثر ضعفا» قد خسرت إجمالا تريليون دولار من الودائع منذ العام الماضي وحتى نهاية مارس تقريبا، مع تسجيل نصف تلك التدفقات النازحة في مارس بعد انهيار «سيليكون فالي بنك». لكن بينما دخلت تلك الودائع إلى البنوك الأكبر، قال بعض المحللين إن الشركات والعملاء الأثرياء في الغالب نقلوا أموالهم من حسابات الودائع إلى السندات أو أذون الخزانة حيث يحصلون على عائد أكبر.
60 مليار دولار من 3 مؤسسات:- ولم يقتصر نزيف الودائع الخارجة من النظام المصرفي على البنوك فحسب وإنما امتد إلى العديد من مؤسسات القطاع المالي الأخرى.
وكشفت تقارير أن ثلاث مجموعات أمريكية مالية كبيرة فحسب عانت خروج ودائع بقيمة إجمالية 60 مليار دولار في الربع الأول مع استمرار العملاء في البحث عن عوائد أعلى.
بالطبع تدفق تلك الودائع من مجموعة «تشارلز شواب» و»ستيت ستريت» و»إم آند تي» جاء في وقت شديد الحساسية بسبب انهيار «سيليكون فالي» وبنكين آخرين مع نزوح قياسي للأموال من النظام المصرفي بوتيرة لم تُسجل سوى خلال الأزمة المالية العالمية في 2008. ويقول خبراء إن المدخرين الأمريكيين كانوا بالفعل يسحبون النقد من الحسابات المصرفية ذات العوائد المنخفضة ويحولونها إلى منتجات بديلة مثل صناديق أسواق المال أو سندات الخزانة التي تدر عوائد أفضل، ما يسمح لهم بالاستفادة من الزيادة الكبيرة في أسعار الفائدة الأمريكية.
وقالت «شواب» إن الودائع تراجعت 11% أو ما يعادل 41 مليار دولار في الربع الأول على أساس فصلي و30% على أساس سنوي إلى 325.7 مليار دولار. وتراجعت الودائع في «ستيت ستريت» 5% في الربع الأول إلى 224 مليار دولار، ما يفوق التوقعات، وقالت المجموعة للمحللين إنه من المتوقع خروج ودائع في حسابات بغير فائدة بقيمة تراوح بين 4 و5 مليارات دولار في الربع الثاني.
وقال بنك «إم آند تي» إن إجمالي الودائع لديه انخفض 3% من 163.5 مليار دولار في نهاية 2022 إلى 159.1 مليار دولار.
بافيت:- من جانبه هاجم المستثمر الأمريكي المخضرم «وارن بافيت» الجهات التنظيمية والسياسيين ووسائل الإعلام لإرباكهم الجمهور بشأن سلامة البنوك الأمريكية وحذر من أن الظروف قد تتدهور مستقبلا. وردا على سؤال بشأن الاضطرابات الأخيرة، قال بافيت في خطاب مطول في الاجتماع السنوي لمساهمي شركته «بيركشاير هاثاواي» إن الوضع في القطاع المصرفي لم يتغير عما كان عليه دائما وهو أن «الخوف معد» مضيفا «تاريخيا، كان الخوف أحيانا له ما يبرره، وأحيانا لم يكن كذلك». وأضاف «لا يمكنك أن تدير اقتصادا إذا كان الناس قلقين بشأن ما إذا كانت أموالهم في البنوك آمنة». وامتلكت «بيركشاير» بنوكا منذ وقت مبكر من تاريخ إدارة بافيت لها والذي يمتد إلى ستة عقود، كما أن الملياردير الأمريكي كثيرا ما تقدم لضخ الثقة ورأس المال في القطاع في عدة مناسبات.
وفي أوائل التسعينيات، شغل «بافيت» منصب الرئيس التنفيذي لبنك الاستثمار «سولومون براذرز»، ما ساعد في إعادة تأهيل سمعة أحد أكبر بنوك وول ستريت والذي مر بأزمة قاسية في ذلك التوقيت. وفي الآونة الأخيرة، ضخ «بافيت» 5 مليارات دولار في بنك «جولدمان ساكس» في 2008، و5 مليارات أخرى في «بنك أوف أمريكا» في 2011، ما ساعد على استقرار المؤسستين. وقال «بافيت» إنه ما زال مستعدا، في ظل وفرة السيولة النقدية لدى شركته، للتحرك مجددا إذا استدعى الأمر.
وقال «نريد أن نكون هناك إذا توقف النظام المصرفي مؤقتا بطريقة ما… لا ينبغي، ولا أعتقد أنه سيحدث، ولكن من الممكن».
يقول «بافيت» إن المشكلة الأساسية تتمثل في أن الجمهور لا يفهم أن ودائعه المصرفية آمنة حتى تلك غير المؤمن عليها. وأضاف أن الجهات التنظيمية والكونجرس لن يسمحوا أبدا بأن يخسر المودعون دولارا واحدا في أي بنك أمريكي، حتى لو لم يصرحوا بهذا التعهد علنا. وأكد «بافيت» أنه يحتفظ بأمواله الشخصية في بنك محلي. ويقول مراقبون إن انتشار مشاعر الخوف لدى المواطن الأمريكي العادي بشأن خسارة مدخراته، إلى جانب سهولة تنفيذ المعاملات المصرفية عبر الهاتف المحمول، قد يؤدي إلى مزيد من عمليات السحب المذعورة للأموال من بنوك أخرى، ما قد يؤدي لانهيارها في نهاية المطاف. وقال بافيت «الرسائل الصادرة خلال الأزمة كانت سيئة للغاية، كانت سيئة من جانب سياسيين لهم مصلحة أحيانا في أن تكون رسائلهم بهذا السوء…لقد كانت سيئة أيضا من جانب الوكالات، ومن جانب الصحافة» مضيفا أن كل هذا أثار ذعر الناس.
ويقول محللون إن «بيركشاير» كانت تبيع بشكل تدريجي محفظتها من أسهم البنوك، بما في ذلك أسهمها في «جيه.بي مورجان» و»ويلز فارجو» منذ بداية جائحة كورونا في 2020 تقريبا.

 

وقال بافيت إن الأحداث الأخيرة أكدت اعتقاده بأن الجمهور الأمريكي لا يفهم نظامه المصرفي.

 

وكرر «بافيت» عدة مرات أنه ليس لديه فكرة عن كيفية تطور الوضع الحالي. وقال «هذا هو العالم الذي نعيش فيه… قد يتحول عود ثقاب مشتغل إلى حريق هائل، أو انفجار».

 

بين الشك والطمأنينة

 

 

كشف استطلاع للرأي أن ما يقرب من نصف الأشخاص البالغين في الولايات المتحدة قالوا إنهم قلقون بشأن سلامة ودائعهم في البنوك والمؤسسات المالية الأخرى، ما يشير إلى مستويات قلق مرتفعة أو أعلى مما كانت عليه خلال الأزمة المالية العالمية في 2008.

 

وأظهر الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة «جالوب» أن 48% من الأمريكيين قلقون للغاية، بما في ذلك 19% قلقون للغاية و29% قلقون بشكل معتدل بشأن أموالهم في أعقاب أسوأ موجة إخفاق تشهدها البنوك منذ 15 عاما. بينما قال 20% إنهم غير قلقين على الإطلاق وقال 30% إنهم غير قلقين للغاية.

 

وقالت مؤسسة «جالوب» إنه في سبتمبر 2008، أي بعد فترة وجيزة من انهيار بنك «ليمان براذرز» قال 45% من البالغين في الولايات المتحدة إنهم قلقون جدا أو بشكل متوسط بشأن سلامة أموالهم.

 

وانقسمت مستويات القلق إلى حد ما بين المنتمين إلى الحزبين الجمهوري والديمقراطي، إذ قال 55% من الجمهوريين إنهم قلقون بشأن ودائعهم مقارنة مع 36% من الديمقراطيين الذي ينتمي إليهم الرئيس «جو بايدن».

 

وهذه صورة طبق الأصل من الانقسام الحزبي خلال الأزمة المالية العالمية في 2008 حينما كان الرئيس الجمهوري «جورج دبليو بوش» يتولى الرئاسة.

 

وقال «ميجان برينان» كبيرة محرري استطلاعات الرأي الأمريكية لدى «جالوب» إن نفس الديناميكية كانت سائدة، لكن مع وجود أحد المنتمين للحزب الجمهوري في البيت الأبيض انعكست تقريبا وجهات النظر. وقالت «نعلم أن الآراء الاقتصادية تتشكل إلى حد كبير من خلال السياسة هذه الأيام».

 

وأشار الاستطلاع إلى زيادة المخاوف بين من لا يحملون شهادة جامعية وأولئك الذين يقل دخلهم عن 100 ألف دولار سنويا، على الرغم من أن المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع تضمن الودائع حتى 250 ألف دولار.

 

في الوقت ذاته، انطلقت أصوات عدة لطمأنة المدخرين والمواطنين العاديين. وقال رئيس لجنة الخدمات المالية بمجلس النواب الأمريكي «باتريك مكهنري» إنه على الأمريكيين أن يظلوا واثقين في سلامة ودائعهم المصرفية.

 

وأشاد «مكهنري» بالعمل السريع الذي قامت به المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع خلال الأزمة.

 

من جانبها، قالت وزارة الخزانة الأمريكية إنها تواصل مراقبة تطورات السوق، مشيرة إلى أن تدفقات الودائع مستقرة.

 

وقال مسؤول بوزارة الخزانة «نواصل مراقبة تطورات السوق عن كثب..النظام المصرفي لديه سيولة كبيرة وتدفقات الودائع مستقرة».

 

المصادر: رويترز- جالوب- بلومبرج- فايننشال تايمز- سي.إن.بي.سي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى