مقالات اقتصادية

البنوك المركزية أمام معضلة سياسة ثلاثية

كتب أسامة صالح

كان حزيران (يونيو) شهرا استثنائيا لعالم البنوك المركزية، شهر يمكن تذكره باعتباره لحظة حاسمة لمصداقية البنوك المركزية في الدول المتقدمة. ومن المرجح أن يكون مهما للاستقلال السياسي للبنوك المركزية كل منها على حدة ولآفاق التضخم والنمو وعدم المساواة.

نادرا ما نشهد مثل هذا المزيج من الأحداث
في غضون أيام قليلة. فاجأ بنك إنجلترا، وهو بنك مركزي رئيس، الأسواق بزيادة كبيرة في أسعار الفائدة للمرة الـ13 على التوالي بمقدار 0.50 نقطة مئوية غير متوقعة.
كما رفع البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة وأشار إلى زيادات أخرى قادمة أكثر على الرغم من انكماش اقتصاد منطقة اليورو والعلامات التحذيرية من المؤشرات الرئيسة. بالنسبة إلى البنكين المركزيين في أستراليا وكندا، تتم مراقبة رؤيتهما في السياسة النقدية من كثب، فقد استأنفا زيادات أسعار الفائدة بعد توقف مؤقت في دورات التشديد. كما واصلت البنوك المركزية الأصغر في النرويج وسويسرا طريقها نحو رفع أسعار الفائدة. فيما نأت الرئيسة الجديدة للبنك المركزي التركي بجرأة عن موقف السياسة النقدية المحير الذي دعا إليه رئيس البلاد، ورفعت أسعار الفائدة بشكل حاد.
في المقابل، اختار الاحتياطي الفيدرالي عدم رفع أسعار الفائدة، على الرغم من رفع المسؤولين توقعاتهم للتضخم وتوجيه الأسواق نحو فترة طويلة من ارتفاع أسعار الفائدة.

يعد هذا المزيج من الأحداث بعيدا كل البعد عن المألوف. في سياق معركة استمرت عامين ضد التضخم، فإن هذا يمثل وضعا مشوشا ومربكا يلقي الضوء بشكل غير مريح على البنوك المركزية، على كلا الصعيدين الفردي والجماعي. يثير كثيرون الآن حفيظة الساسة الذين نفد صبرهم والمواطنون العاديون الذين يتعرضون لضغوط جراء ارتفاع الأسعار وفوائد الرهن العقاري.

إن الموضوع الكامن وراء كل هذه التطورات هو استمرار التضخم. أدى ذلك إلى إجماع بين البنوك المركزية على أن أسعار الفائدة يجب أن تظل مرتفعة لمدة أطول. حتى توقف الاحتياطي الفيدرالي عن الزيادة ينظر إليه على أنه مجرد استراحة مؤقتة قبل استئناف رفع أسعار الفائدة.

ما يجعل هذا الموقف أكثر غرابة هو أنه يأتي بعد واحدة من أكثر دورات رفع الفائدة تركيزا منذ عقود. بناء على ذلك، تشير منحنيات العائد في بعض أسواق السندات الحكومية إلى أن المستثمرين يتوقعون بشكل متزايد فترة من الركود التضخمي – حيث يتسم الاقتصاد بالنمو الراكد والتضخم المرتفع. مثلا، بعد تقدمها الأخير، يتم تداول عوائد السندات الأمريكية لأجل عامين عند نقطة مئوية واحدة تعد مذهلة وأعلى من معيار السندات لأجل عشرة أعوام، ما يشير إلى استعداد المستثمرين لقبول عوائد أقل بشكل كبير لمدة ثمانية أعوام إضافية.

لكن هذا لا يضخم التركيز على البنوك المركزية فحسب، بل يؤجج عملية إلقاء اللوم التي تقوض الاستقلال السياسي المطلوب بشدة لاستعادة فاعلية السياسة والمصداقية العامة. علاوة على ذلك، إنه يصرف الانتباه عن حقيقة أن البنوك المركزية، بمفردها، غير قادرة على مواجهة جميع تحديات المعضلة السياسة الثلاثية الحالية: الحفاظ على معدل تضخم منخفض ومستقر، وتعزيز النمو القوي والشامل، وضمان استقرار الأسواق المالية. وكما تمت الإشارة في التقرير السنوي الأخير لبنك التسويات الدولية، قد تكون الدول بالفعل “تختبر حدود ما يمكن أن يسمى منطقة الاستقرار”.
لكن لسوء الحظ، تتحمل البنوك المركزية مسؤولية كبيرة عن هذا الوضع، وقد يصبح الأمر أكثر إشكالية إذا أثير مجددا ما كان اعتدالا في تضخم السلع بثبات بينما يبقى تضخم الخدمات لا يقهر.
رغم أن تكثيف التركيز على البنوك المركزية يعد مفهوما، فإن حل معضلة السياسة الثلاثية لكثير من الدول لم يعد يقع ضمن اختصاصها الضيق فقط. هناك حاجة ماسة إلى مبادرتين إضافيتين:
أولا، اتباع نهج سياسي عالي التنسيق، نهج يحافظ على الاستقرار المالي، بينما يعزز بشكل حاسم الاستجابة للعرض والإنتاجية وأداء سوق العمل والتنسيق السياس الإقليمي / العالمي.
ثانيا، يجب إجراء مراجعة شاملة رفيعة المستوى لبعض البنوك المركزية من هيئات مستقلة تعينها الحكومات. ويجب أن يشمل ذلك عمليات صنع السياسات وأيضا، في بعض الحالات المهمة مثل الاحتياطي الفيدرالي، النظر في أطر السياسات التي عفا عليها الزمن وتحديد الأهداف، والافتقار إلى التنوع المعرفي وضعف المسؤولية الإدارية. مثل هذا النهج العلاجي الشامل ضروري إذا كان على البنوك المركزية أن تقوم بدورها في الجهود المشتركة بين الوكالات التي تشتد الحاجة إليها لتحقيق الازدهار الاقتصادي والرفاهية الاجتماعية والاستقرار المالي الحقيقي على المدى الطويل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى