مقالات اقتصادية

الحيرة تطال الجميع في سوق السندات

متداولو أدوات الدخل الثابت كانوا "أسياد العالم" يوماً ما.. والآن يغلب عليهم الذعر

كتب أسامة صالح 

في وقت من الأوقات كان متداولو السندات يُعتبرون على قدر من القوة والمعرفة، بحيث وصفهم توم وولف بأنهم “أسياد العالم” في روايته “شعلة الغرور” (The Bonfire of the Vanities) الكلاسيكية، المنشورة في 1987، التي تدور أحداثها في “وول ستريت”.

وفي هذه الأيام، يبدون مثل غزالة علقت فجأة بين الأضواء القوية لمصابيح السيارات الأمامية.

ويشعر هؤلاء المتعاملون في سوق الدخل الثابت بالحيرة والارتباك، مثلهم مثل الجميع، بشأن ما ينتظر الاقتصاد في المستقبل. نستطيع أن نرى ذلك في مسح “جيه بي مورغان” الأسبوعي للمتداولين في سوق السندات، الذي نُشر الأربعاء.

وقد كشف أن نسبة المشاركين في المسح الذين يقولون إن موقفهم محايد، لا مع “شراء” ولا “بيع” سندات الخزانة الأميركية، وهي المعيار العالمي، ارتفعت إلى 80%، وهي أعلى نسبة منذ أواخر 2011 في ذروة أزمة الديون السيادية الأوروبية، وأعلى كثيراً من متوسط النسبة، البالغ 59%، منذ ذلك الحين.

ويتوقع 9% فقط ارتفاع سندات الخزانة، فيما يتوقع 11% انخفاضها. باختصار، ليس لدى متداولي السندات موقف سائد.

دعماً لرأيهم هذا، ترسل البيانات الاقتصادية إشارات متباينة بشأن الاقتصاد. البيانات الصادرة يوم الأربعاء خير مثال على ذلك.

أظهرت بيانات حكومة الولايات المتحدة تراجع مبيعات التجزئة في ديسمبر إلى أدنى مستوياتها خلال عام، وانخفاض أسعار المنتجين لأدنى مستوياتها منذ بداية جائحة كورونا في أبريل 2020.

لذا، فالخلاصة هي أن إنفاق المستهلكين، الذي يمثل نحو ثلثي الاقتصاد، بدأ يتغير أخيراً والتضخم يتباطأ. يعني ذلك أن الركود آتٍ بالتأكيد وأن الاحتياطي الفيدرالي يمكنه وقف رفع أسعار الفائدة عما قريب.

وقالت جمعية مصرفيي الرهن العقاري إن مؤشرها الأسبوعي لطلبات شراء المنازل ارتفع لأعلى مستوى له منذ أكتوبر 2015. كما ذكرت الرابطة الوطنية لشركات بناء المساكن أن مؤشرها الشهري لمعنويات بناة المنازل ارتفع هذا الشهر لأعلى مستوياته منذ أكتوبر 2021.

فيما قال رئيس الرابطة الوطنية لشركات بناء المساكن، جيري كونتر، في بيان: “ارتفاع معنويات شركات بناء المساكن يعني أيضاً أن الانخفاضات الدورية لتراخيص وتصاريح البدء في بناء المنازل اقتربت على الأرجح، ومن الممكن تعافي قطاع بناء المنازل في أواخر 2023”. لذا، فالخلاصة هي أن المستهلكين يشعرون بارتياح وسيجري تجنب الركود وسيحتاج الاحتياطي الفيدرالي لاستكمال دورة رفع أسعار الفائدة.

 

وماذا عن الصين؟ هل سيؤدي تخليها عن سياسات “صفر كوفيد” وإعادة فتح اقتصادها إلى دعم الاقتصاد العالمي مع الإبقاء رغم ذلك على مستويات التضخم العالمي مرتفعة؟ أم ستخفف عقبات سلاسل التوريد، التي كانت مساهماً رئيسياً في تسريع التضخم؟ لا يمكن لأحد الجزم بالتأكيد، لأن المستهلكين الصينيين يتعافون أيضاً من قيود صارمة فرضت على الشركات الخاصة، أثّرت على الاقتصاد البالغ 18 تريليون دولار.

ما يزيد الحيرة هو ارتفاع التقلبات الضمنية حسب قياس مؤشر “إنتركونتيننتال بنك أوف أميركا ميرل لينش – موف” (ICE BofA MOVE Index) عند مستوى 122.3 نقطة، الذي وصل له المؤشر منذ فترة قريبة، يصل المؤشر لنحو ضعفي مستواه ما قبل الجائحة. لا نحصل على مستويات التقلبات هذه، عندما كان المتعاملون واثقين نسبياً من الآفاق المستقبلية.

هذه أوقات غير مسبوقة. يرغب كثير من المحللين الاقتصاديين والاستراتيجيين والمستثمرين تطبيق القواعد التي سرت قبل الجائحة، لكنها لا تنطبق بعد الآن. ما يزال الناس يشعرون بتداعيات اقتصاد توقف فجأة وتخلص من نحو 17 مليون وظيفة وانكمش بنسبة 31%، فقط ليتعافى في لمح البصر بفضل قوة برامج المنح الحكومية النقدية السهلة.

ربما تكون هذه هي الرسالة الحقيقية من سوق السندات، أنَّ توقُّع مسار الاقتصاد انطلاقاً من هنا هو مسعى لا جدوى منه.

يعلم متداولو أدوات الدخل الثابت ذلك بالتأكيد أكثر من أي شخص آخر، إذ إنهم عانوا كثيراً العامين الماضيين بعد رهانهم أن القوى القديمة، التي عملت للسيطرة على التضخم لسنوات، ستثبت وجودها وأن الزيادات الكبيرة في أسعار المستهلكين ستُثبِت أنها عابرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى