مقالات اقتصادية

الطمع قد يُعمي بصيرة البنوك فيحيل أدوات الذكاء الاصطناعي عديمة الفائدة

كتب أسامة صالح

توظِّف المصارف نماذج معقَّدة لتحليل المخاطر والتنبؤ بها، إلا أنَّ كبار المديرين التنفيذيين يعمدون أحياناً إلى تجاهل هذه التنبؤات، ويُقبلون على المخاطر على أمل تحقيق مكاسب كبيرة، والحصول بالتالي على مكافآت شخصية سخيِّة، ولكنهم بذلك يغضُّون الطرف عن المصلحة العامة، ويجازفون بأموال العملاء. للحديث عن هذا الموضوع، أجرينا مقابلة مع ديدييه سورنيت، الخبير في إدارة المخاطر.

أدَّى انهيار مصرف كريدي سويس إلى إثارة زوبعة جديدة في القطاع المالي العالمي، وهو قطاع يبدو أنه بات يتجِّه أكثر فأكثر نحو ثقافة المُخاطرة، وأصبح يجُّر الأزمات والخسائر على المجتمعات.

والمفارقة أن هذه الأزمات المصرفية تتكرر في زمن توظِّف فيه النظم المصرفية المزيد من الأدوات القائمة على الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالمخاطر وإدارتها. إذ سهَّلت هذه الأدوات على البنوك مهمَّة تحليل مجموعات ضخمة من البيانات الداخلية، أي من السجلات التاريخية للمصرف، والبيانات الخارجية – من الوكالات الحكومية، والمواقع الإلكترونية، والهيئات التنظيمية والرقابية، والأدبيات في القطاع المالي وغيرها من المصادر. فاليوم، يُمكن استخدام الخوارزميات والمنصات الذكية لتحديد الأنماط المتكررة وحساب النتائج والمخاطر بدقة. وبالتالي، أصبح من الممكن التنبؤ بمخاطر الغش والأخطاء التشغيلية ومخاطر السوق والقضايا المتعلقة بالسيولة، ومن ثمَّ تحسين عمليات اتخاذ القرارات.

مع ذلك، يرى، ديدييه سورنيت، الأستاذ الفخري في مخاطر المشاريع التجارية بالمعهد التقني الفدرالي العالي بزيورخ، أن الذكاء الاصطناعي لن يُجدي نفعاً في إنقاذ البنوك من الإخفاقات، لأن المشكلة الحقيقية لا تكمن في قلة البيانات، بل في جشع الكوادر التنفيذية المصرفية ورؤيتها القصيرة الأجل.

وتستخدم البنوك نماذج قائمة على الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالمخاطر وتقييم أداء استثماراتها. ومع ذلك، لم تحُل هذه النماذج دون انهيار كريدي سويس أو مصرف سيليكون فالي. فلماذا لم يعمل البنكان وفقاً للتنبؤات؟ ولماذا لم تتدخل الجهات صانعة القرار في مرحلة مبكرة؟

تم استخلاص في الماضي تنبؤات كثيرة أثبتت جدواها، وفي كل مرَّة تجاهلها المديرون ومتخذو القرار. ولماذا هذا التجاهل؟ لأنه من السهل جدًّا أن تدَّعي أن الأزمات هي “قضاء وقدر” وأن التنبؤ بها لم يكن مُمكناً، وبذلك، تنفض عن يديك المسؤولية.

العمل وفقاً للتنبؤات يعني “قتل المتعة”، أي اتخاذ تدابير موجعة. ولهذا السبب يميل متخذو القرار بصورة أساسية إلى التصُّرف بعد وقوع الحدث، وهم دائماً متخلفون عن مسار منحى الأحداث. إنه لانتحار سياسي أن تفرض تدابير موجعة قبل أن تحدث الأزمة وأن تجد لها حلًّا قبل أن تنفجر في وجهك. هذه هي المشكلة الجوهرية التي تشوب التحكُّم بالمخاطر.

فعلى مدى عقود، اعتمد بنك كريدي سويس تدابير واهية للتحكم بالمخاطر واعتنق ثقافة هشَّة. وفضَّل أن يترك لوحدات الأعمال حرية القرار  في اتخاذ التدابير، وبالتالي، كان من الحتمي أن تتراكم لديه محفظة من المخاطر الكامنة – أو بالأحرى أقول محفظة كبيرة من خيارات البيع الخاسرة خسارة كبيرة. ولاحقاً، وبعد أن وقعت حفنة من الأحداث العشوائية التي كانت أعراضاً تكشف عن الافتقار الشديد إلى الضوابط، بدأ الناس يساورهم القلق.

وعندما أصاب الإفلاس السريع واحداً من البنوك الكبيرة في الولايات المتحدة [بنك سيليكون فالي] تبلغ قيمة أصوله 220 مليار دولار، بدأ الناس في إعادة تقييم استعدادهم لترك ودائعهم غير المؤمنة لدى بنوك تُدار على نحو واهٍ،  وبالتالي حدث ما حدث.

وهذا يعني أن التنبؤ بالمخاطر وإدارتها لن يجدي نفعاً إن لم يكن حلُّ المشكلة نابعاً من مستوى النظام..

سياسة الفائدة الصفرية أو السالبة هو المسبب الجذري لكل ما يحدث. فقد تركت هذه السياسة البنوك في موقف ضعيف أمام أسعار الفائدة المتزايدة. بالإضافة إلى ذلك، أدَّت الديون الوطنية الكبيرة إلى إضعافها [أي البنوك]. نعيش اليوم في عالم واهٍ جدًّا، والسبب في ذلك هو السياسات القصيرة النظر وغير المسؤولة التي تنتهجها البنوك المركزية الكبيرة، وهي سياسات لم تراع العواقب البعيدة الأجل للتدابير التدخلية التي تتخذها [أي البنوك المركزية] والقائمة على “إطفاء النار بعد اشتعالها”.

الهزة مصدرها النظام، طالت أولاً بنك سيليكون فالي وبنك سيغنتشر، وغيرها، وكان بنك كريدي سويس مجرد نوبة تكشف عن مشكلة كبيرة في النظام: وهي عواقب السياسات الكارثية التي تنتهجها البنوك المركزية منذ عام 2008، والتي أغرقت الأسواق بالمال السهل، ونتج عنها فائض كبيرة لدى المؤسسات المالية. وما نشهده اليوم هو بعض هذه العواقب.

ما الدور الذي يُمكن أن يؤديه التنبؤ بالمخاطر القائم على الذكاء الاصطناعي في حالة العملاق المصرفي “يو بي أس”، على سبيل المثال؟

الذكاء الاصطناعي والنماذج الحسابية ليس لها أي دور، بمعنى أن هذه الأدوات (أي أدوات التحكُّم بالمخاطر) تفيد فقط إذا كانت هناك نية صادقة للاستفادة منها.

وعندما تقع المشكلة، غالباً ما يسارع الكثير إلى إلقاء اللوم على نماذج حساب المخاطر وأساليب وضع هذه النماذج، وما إلى ذلك. وهذا غير صحيح. فالمشكلة تكمن في البشر الذين، ببساطة، يتجاهلون هذه النماذج ولا يُلقون لها بالاً. شهد العقدان الماضيان وقائع كثيرة جدًّا. وفي كلِّ مرَّة، تتكرر القصة ذاتها دون أن يتعلم أحد أي درس. وبالتالي، فإنَّ الذكاء الاصطناعي لا يستطيع فعل الكثير، لأنَّ المشكلة لا تتعلق بالحاجة إلى المزيد من “الذكاء”، ولكنها تتعلق بالجشع وقصر النظر.

ورغم [أن الصفقة التي أقدم عليها “يو بي أس”] يبدو في الظاهر أنها تنطوي على أرباح مالية، إلا أنها على الأرجح صفقة سيئة وخطيرة على يو بي أس. والسبب هو أنَّ بناء الثقافة الصحيحة تجاه المخاطر يحتاج إلى عقود، وأنَّها [أي إدارة “يو بي أس”] من المرجح أن تتسبب الآن في إحداث أضرار معنوية كبيرة عند تسريح عدد كبير من الموظفين. وعلاوة على ذلك، فلن تقدِّم أي جهة تنظيمية أي ضمانات لبنك “يو بي أس” لتعويضه عن انتهاكات القواعد التنظيمية أو القواعد المتعلقة بمكافحة غسيل أموال العملاء، وهي انتهاكات ورثها عن كريدي سويس الذي نعرف أن التزامه بهذه القواعد كان التزاماً ضعيفاً. وفي هذا المجال، سيتعيَّن على بنك “يو بي أس” أن يتعامل مع المشاكل التي ستباغته لسنين قادمة.

هل يُمكن لنا أن نتخيل نظاماً أكثر صرامة تستخدمه الحكومات – أو حتَّى دافعو الضرائب – للرقابة على النظام المصرفي بالاستفادة من البيانات التي تجمعها نُظم الذكاء الاصطناعي؟

جمع البيانات ليس من وظائف نظم الذكاء الاصطناعي. فجمع البيانات “النظيفة” وذات الصلة هي أصعب التحدِّيات، أصعب بكثير من تقنيات تعلم الآلة والذكاء الاصطناعي. فغالبية البيانات هي بيانات شائبة وغير مكتملة وغير متسقة، ومن المُكلف جدًّا حيازتها وإدارتها. وهذا يتطلب استثمارات ضخمة ورؤية بعيدة المدى تكاد تكون دائماً مفقودة. ولذلك، تحدث الأزمات كل خمس سنوات أو نحو ذلك.

يتزايد الحديث في الآونة الأخيرة عن التمويل السلوكي. فهل ينطوي النظام المالي على عوامل نفسية ولاعقلانية أكثر مما كنا نعتقد؟

هناك عوامل الطمع والخوف والأمل وغيرها. كانت هذه مزحة فلنعد إلى الجدِّ، العاملون في القطاع المصرفي والمالي هم عموماً على درجة كبيرة من العقلانية عندما يتعلق الأمر بتحسين أهدافهم وجني الثروات الخاصة. ولا يُمكن وصف هذا باللاعقلانية، بل هي مراهنة وإقبال على مخاطر كبيرة تؤدِّي إلى أرباح ينعم بها الخاصة أو خسائر يتكبدها العامة.
يتعيّن فرض قواعد تنظيمية صارمة. ويُمكن القول إننا نحتاج إلى جعل “القطاع المصرفي مملاً” لترويض الوحوش التي تتسبّب في زعزعة هيكل النظام المالي.

هل يُمكن أن نرى في المستقبل أدوات الذكاء الاصطناعي توظَّف لمنع تهاوي البنوك التي توصف بأنها “أكبر من أن يُسمح بانهيارها”، أم أنَّ هذا مشهد من وحي الخيال؟

. يُمكن للذكاء الاصطناعي أن يمنع الإخفاقات المستقبلية، وذلك إذا استولى الذكاء الاصطناعي على السلطة واستبعد البشر تماماً عن مهمة إدارة المخاطر وفق ضوابط يُمليها الذكاء الاصطناعي، كما هو الحال في العديد من السيناريوهات التي تتنبأ بمخاطر الذكاء الاصطناعي الخارق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى