مقالات اقتصادية

القطاع المصرفي العالمي .. إفلاسات مقبلة أم اضطرابات لا ترقى إلى مستوى الأزمة؟

كتب أسامة صالح 

خلال الشهر الماضي أفلست ثلاثة بنوك أمريكية -سيليكون فالي وسيجنتشر وسيلفرجيت كابيتال– في غضون أسبوع، وانتقلت العدوى خلال أيام إلى القارة الأوروبية ونظامها المصرفي، بإعلان بنك كريدي سويس المؤسس قبل 167 عاما إفلاسه، واجبار البنك المركزي السويسري مجموعة يو بي إس المصرفية على التدخل السريع وشراء منافسه المفلس لتفادي تقويض سمعة سويسرا كمركز مصرفي عالمي، وبعد أن ظن العالم أن تلك الهزة البنكية مرت مرور الكرام، وبقليل من الخسائر، استيقظت الأسواق الدولية لتجد الأزمة توجه ضربتها إلى ألمانيا أقوى الاقتصادات الأوروبية وأكثرها ثباتا، فانخفضت أسهم دويتشه بنك الجمعة الماضي بنسبة لا تقل عن 10 في المائة.

ما حدث خلال آذار (مارس) كان كفيلا بانفجار سيل من التساؤلات حول وضع النظام المصرفي العالمي… هل الاقتصاد الدولي يواجه أزمة بنكية قد تكون مقدمة لأزمة مالية جديدة وعاصفة؟ هل الأزمات المصرفية على ضفتي الأطلسي ليست إلا قمة جبل الجليد المغمور في المياه، وما يحدث ما هو إلا مقدمة أولية لما قد يواجه الاقتصاد الدولي في الفترة المقبلة؟ أم أن تلك المخاوف مبالغ فيها، حيث إن الاقتصاد العالمي تعلم الدرس من الأزمة المالية لعام 2008، التي فجرها حينها إفلاس بنك ليمان براذرز.

ومن الصعب بعد كل التدابير والإجراءات التي اتخذت من حينها حتى الآن لضمان عمل النظام المصرفي بكفاءة وتجنب عمليات الإفلاس الضخمة والكارثية أن تقع أزمة بنكية عالمية جديدة؟ باختصار شديد السؤال الذي يبحث الجميع الآن عن إجابة شافية له، هل انتهت الأزمة المصرفية أم لا؟ وإلى أين يتجه النظام المصرفي العالمي؟

في مثل تلك القضايا الكبرى ذات الطبيعة الجدلية يصعب أن تجد إجماعا بين الخبراء بشأن النتيجة النهائية أو التداعيات، ويصعب أن يتفق الخبراء على زاوية واحدة لتحليل ما يحدث ومساره.

وتم اخذ آراء مجموعة من الخبراء المصرفيين والأكاديميين حول رؤيتهم لمسار الهزات البنكية الأخيرة وهل يمكن تداركها والحد من قدرتها على التمدد والانتشار أم لا؟

حيث يرى الدكتور إل.دي سايمون نائب الرئيس السابق للجنة المالية التابعة لبنك إنجلترا، أنه يوجد تقلصات واضطرابات جزئية في النظام المصرفي العالمي، لكنها لا ترقى إلى مستوى الأزمة، ولن تتجاوز ما يحدث الآن من إفلاس بنكين أو ثلاثة في بعض الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة دون أن تشكل مدخلا لأزمة مالية تطول جوهر النظام المصرفي العالمي.

ويقول إن “هناك فرقا كبيرا بين الأزمة المالية لعام 2008 وما نشهده الآن من إفلاس بعض البنوك وأطلق عليها بنوك الأثرياء، فأزمة 2008 اتسمت بعدم قدرة المقترضين للرهون العقارية عالية المخاطر على السداد، وتحديدا الأشخاص الذين يعانون من مشكلات الائتمان، والذين حصلوا على قروض عقارية من البنوك التي تجاهلت مخاطر منح تلك الفئة قروضا على الرغم من إدراكها أنهم غير قادرين على تحمل تكاليف المعيشة، وبنك ليمان براذرز وغيره من البنوك التي أفلست أو عانت متاعب مالية هي التي قدمت تلك القروض، منذ ذلك الحين والنظام البنكي الأمريكي والأوروبي والياباني يقوم باتخاذ إجراءات وتدابير لضبط عملية الإقراض لتلك الفئات التي ترغب في الاقتراض لكنها غير قادرة على تحمل تكاليف المعيشة”.

في خضم ذلك تغاضت الإجراءات والتدابير عن وضع قيود على اقتراض الأثرياء، وكما يقول الدكتور إل.دي سايمون من هنا حدثت المشكلة، فالاضطراب الأخير وقع في بنوك تقدم خدماتها لعملاء أثرياء لديهم جدارة ائتمانية مرتفعة، إنها بنوك تقدم خدمات مصرفية للأثرياء، وتتخصص أكثر في إدارة الثروات للعملاء الميسورين، من منطلق أن تلك الفئة من المودعين لا تتخلف عن سداد الديون، ويزودون البنك بكثير من الودائع النقدية ويدفعون الرسوم المطلوبة، لكن المشهد تغير عندما ارتفعت أسعار الفائدة، وواجه الأثرياء صعوبات في السداد.

ويضيف: “النظام المصرفي العالمي متماسك والأزمة الراهنة لم تنته، لكنها مؤقتة وسيتم تداركها ولن نشهد تكرارا لما حدث عام 2008 قد يأخذ الأمر بعض الوقت، وحتى يتم تجاوز ذلك قد تفلس بنوك أوروبية خاصة في إيطاليا واليونان وبلجيكا وفرنسا في الأيام المقبلة، لكن النظام المصرفي لن ينهار”.

وجهة النظر أعلاه ترى أنه ليست كل البنوك التي تركز على العملاء الأثرياء تتعرض لضغوط شديدة، فكثير من البنوك التي ينصب تعاملها مع الفئات الثرية هي أيضا بنوك أكثر تنوعا وتركز بشكل أكبر على تحقيق الأرباح من تداول الأسهم وإدارة الأصول أكثر من الرهون العقارية أو الودائع، كما أن المصاعب الحالية التي يواجهها النظام المصرفي في بعض البلدان يمكن التصدي لها عبر تخفيف أسعار الفائدة ودعم السيولة.

من جانبه، قال أوليفر كين المحلل المالي في مصرف نيت ويست: “إننا لا نواجه أزمة مالية والنظام المصرفي العالمي متماسك حتى الآن”، لكنه يحذر من مخاطر تكرار الإفلاسات البنكية في عدد من الدول خاصة في أوروبا في الوقت ذاته أو في أوقات متقاربة، إذ يمكن أن يوجد ذلك مخاطر “عدوى” بين العملاء، وأن يعيد مشهد عام 2008 مرة أخرى، حيث نجد المودعين مصطفين في طوابير طويلة أمام أبواب البنوك لسحب ودائعهم.

ويقول إن “الاتجاه العام في الأسواق يبدو أكثر اقتناعا بأن مخاطر الأزمة المصرفية ستنحسر، وأن الحركة السريعة التي شهدتها أسعار الأسهم أخيرا وتوجه العملاء لسحب أموالهم تعود جزئيا إلى وسائل التواصل الاجتماعي وقدرتها على نشر المعلومات سريعا، وليس إلى ضعف النظام المصرفي”

ويضيف: “انفجار الوضع المصرفي أو الاعتقاد أننا نشهد بوادر أزمة مصرفية عالمية مقبلة تصورات تشاؤمية مبالغ فيها، فعدد من البنوك المركزية أعلنت استراتيجيتها للحفاظ على تدفق الأموال عبر الاقتصاد العالمي للمساعدة في درء أزمة الائتمان التي اجتاحت الأسواق أخيرا، تلك الآلية لم تكن متاحة بقوة في عام 2008، والمبادرة التي يقودها مجلس الاحتياطي الفيدرالي والبنوك المركزية الأخرى بإمكانية الحصول بسهولة أكبر على الدولار الأمريكي بحيث يمكن توزيعه سريعا على البنوك التجارية يجعل من المستبعد أن نشهد أزمة مصرفية على غرار عام 2008”.

بدورها، تستبعد الدكتورة صوفيا آدم أستاذة المالية العامة في جامعة إدنبرة، تماما أن تشهد الأزمة البنكية مزيدا من التفاقم خلال الفترة المقبلة، وذلك على الرغم من حالة عدم الثقة التي تسود حاليا لدى قطاع من صغار المودعين كما تقول. وتعد أن المشكلة البنكية في الولايات المتحدة وسويسرا وألمانيا أخيرا ليست أكثر من اضطرابات في قمة النظام المصرفي، ولم تصب الجسد بأضرار تذكر.

وذكرت أن “القواسم المشتركة بين الإفلاسات البنكية التي حدثت أخيرا تشير إلى عدم وجود أزمة مصرفية عامة، فهناك اختلافات في الحجم والأصول والعملاء بين تلك البنوك، وهذا مختلف عما حدث في أزمة عام 2008 عندما كان هناك قاسم مشترك بين جميع البنوك التي تعرضت للإفلاس حينها، وهو عدم قدرة أصحاب قروض الرهن العقاري على السداد، اليوم بنك كريدي سويس لا يستثمر بكثافة مثل بنك سيليكون فالي في مجال التكنولوجيا، ودويشته بنك لديها عديد من المقاييس البنكية القوية، فنسبة تغطية السيولة على سبيل المثال 135 في المائة، ويحقق أرباحا جيدة، والمكونات الرئيسة للأرباح متوازنة، وعلى الرغم من أن بيانات الفيدرالي الأمريكي كشفت عن تراجع في إجمالي الودائع المصرفية بنحو 120 مليار دولار، لكن عديدا من المؤشرات الأخرى تشير إلى استقرار في النظام المصرفي الأمريكي”.

لكن الدكتورة صوفيا آدم -على الرغم من ثقتها في النظام المصرفي العالمي، واستبعاد أن تذهب الأزمة المصرفية الراهنة أبعد مما هي عليه في الوقت الراهن- تحذر من تطورات قد تقلب المشهد رأسا على عقب.

وأكدت أن النظام المصرفي الأمريكي والدور الذي يلعبه الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يعد حجر الأساس في استقرار النظام المالي العالمي، لكن ذلك جزء من كل متصل بالثقة العالمية بالاقتصاد الأمريكي وأدائه الإيجابي، وحتى الآن الشركات الأمريكية لم تقم بعمليات تسريح للعاملين والأداء العام بين مقبول وجيد ويبتعد عن الركود الاقتصادي، لذلك الفيدرالي الأمريكي أكثر قدرة على التركيز في تعامله مع أزمة التضخم والأزمة المصرفية، ولا يوجد لديه جبهات متعددة يقاتل فيها في الوقت ذاته، ومن ثم يتمتع بقدرة كبيرة على مساندة النظام المصرفي في الدول الصديقة في أوروبا والحيلولة دون تعرضه للانهيار، لكن إذا اختلف المشهد ودخل الاقتصاد الأمريكي في مرحلة ركود مع ارتفاع في معدلات التضخم وارتفاع في مستوى عدم اليقين الاقتصادي، فإن النظام المصرفي قد يصبح عاجزا عن التعامل مع جميع تلك التحديات في الوقت ذاته، وربما يتكرر سيناريو عام 2008.

وبالنسبة للخبير كيت جونيور رئيس قسم الائتمان في مجموعة ليدز بيلدنج سوسيتي لا يحمل الدرجة ذاتها من التفاؤل بخصوص ما تحمله الأيام المقبلة للنظام المصرفي العالمي، ويعتقد أنه “ربما لن نشهد أزمة مصرفية على غرار عام 2008، ولكن سنشهد أزمة مصرفية تحمل كثيرا من ملامح أزمة عام 2008”.

وقال “: إنه “في جميع الاقتصادات الثقة هي جوهر العلاقة بين المودعين والنظام المصرفي، فإما أن تؤمن بأن النظام مستقر وقادر على الاستمرار أو لا تؤمن به، وإذا أقر الجميع في وقت واحد عدم الإيمان بالنظام فإنه ينهار، الذي يستبعدون انهيار النظام المصرفي العالمي، وينكرون وجود أزمة في بنيته الحالية كالنعام يضعون رؤوسهم في الرمال، فالبنوك لا تفشل بهذا العدد ولا بهذا الحجم ولا بتلك السرعة”.

وتابع: “بنك سيليكون فالي ليس بنكا صغيرا عشوائيا يدير عددا قليلا من الشركات، إنه يحتل المرتبة الـ16 في ترتيب البنوك في الولايات المتحدة، ويضم عملاء يمكن القول إنهم النخبة المتمرسون في الصناعة الرائدة في العالم، ألا وهي التكنولوجيا، في عامين فقط بين 2020 و2022 تضخمت ودائع بنك سيليكون فالي من 60 مليارا إلى 200 مليار، واستثمرت في أصول آمنة تماما السندات الحكومية والأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري، وساند كبار الأثرياء في وادي السيليكون البنك، وعلى الرغم من ذلك كله انهار وأفلس.

وبنك كريدي سويس أحد أعمدة النظام المصرفي السويسري، وبنك يو بي إس أجبر على شرائه، وهناك عديد من التحليلات تشير إلى أنه إذا لم تكن عملية الشراء قد تمت، فإن إفلاس كريد سويس كان يعني انهيار بنك يو بي إس وغيره من المصارف السويسرية بالتبعية، دويتشه بنك هو أكبر بنوك ألمانيا، وأسهمه تتراجع”.

باختصار، كما يشير كيت جونيور إلى أن أزمة 2008 أدت إلى إجراءات تنظيمية لضبط العمل الداخلي للبنوك ولعلاقة العملاء بالبنك وإمكانية إقراضهم، وكذلك علاقة البنوك ببعضها بعضا وبالبنك المركزي في بلدانها، لكن البنوك وعبر تلك الأعوام استمرأت فكرة سعر الفائدة المنخفض الذي يصل إلى الصفر وأقل أحيانا، كما اعتادت على رعاية الأب الأكبر لها جميعا، وأعني البنوك المركزية وتحديدا الفيدرالي الأمريكي.

ويؤكد أن كرة الثلج الآن تتدحرج وستأخذ في طريقها عديدا من البنوك وهناك مزيد من الإخفاقات البنكية في الطريق طالما ظل سعر الفائدة يرتفع بسرعة من قبل البنوك المركزية، حيث ظلت المخاوف من حدوث تباطؤ اقتصادي عالمي تحلق في الأفق.

وأشار إلى أن “جانيت يلين وزيرة الخزانة الأمريكية تدرك ذلك فبعد أن أخبرت الكونجرس أنه لن تتم حماية جميع الودائع المصرفية، قامت بتعديل البيان الذي أصدرته لتقول إن الإدارة الأمريكية ستتخذ خطوات إضافية إذا لزم الأمر لمعالجة الاستقرار في النظام المصرفي”.

وأضاف: “من المرجح أن يستمر التقلب في الأسواق وأن نرى مزيدا من إفلاسات البنوك، لكن المشكلة أن مصير النظام المصرفي العالمي لم يعد في يد النظام المصرفي العالمي، لقد بات بأيدي عوامل اقتصادية تتجاوز النظام المصرفي ذاته، وترتبط أكثر بمدى استقرار النظام الاقتصادي الدولي، الذي يبدو متأرجحا الآن أكثر من أي وقت مضى منذ أزمة عام 2008”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى