مقالات اقتصادية

بولندا محرك جديد للنمو الأوروبي .. هل تتفوق على بريطانيا اقتصاديا بحلول 2030؟

كتب أسامة صالح 

قبل عدة أيام ألقى السير كير ستارمر زعيم حزب العمال البريطاني المعارض بحجر ثقيل في وجه المجتمع والاقتصاد البريطاني.

الحجر الملقى لم يكن أكثر من تصريح، لكن أصداءه لم تنته حتى اليوم. باختصار ووفقا لتصريحات زعيم المعارضة البريطانية، مستندا فيما يقول إلى تحليل لبيانات البنك الدولي، فإن المواطن البريطاني العادي سيكون أفقر من نظيره البولندي بحلول عام 2030 وأقل رفاهية من أولئك المقيمين في رومانيا والمجر بحلول عام 2040.

التصريح كان جزءا من تراشق إعلامي بين زعيم المعارضة والحكومة، لكنه لم يكن له أن يمر مرور الكرام، فوفقا لزعيم حزب العمال المعارض، وبافتراض أن الناتج المحلي الإجمالي للفرد في المملكة المتحدة واصل النمو بمعدل 0.5 في المائة وهو معدل النمو المتحقق بين عامي 2010 و2021 مقابل 3.6 و3 و3.8 في المائة في بولندا والمجر ورومانيا على التوالي خلال الفترة الزمنية نفسها، فإن بريطانيا ستكون أفقر من هؤلاء الثلاث.

تصريحات زعيم المعارضة أثارت انزعاجا شعبيا في دولة لا تزال تحمل لقب “عظمى”، ولم تمر الا بضعة أعوام منذ قررت الأغلبية الخروج من الاتحاد الأوروبي، لعديد من المبررات، من بينها ضغط المهاجرين من بولندا والمجر ورومانيا.

وربما يكون القلق الشعبي من تلك التصريحات ما دفع بزعيم المعارضة إلى إعادة “إيضاح” تصريحاته، وهي الكلمة المهذبة التي يستخدمها عادة السياسيون للاعتذار عن الإدلاء بتعليقات مثيرة للجدل، ففي حوار مع هيئة الإذاعة البريطانية قال السير كير ستارمر “كان قلقي الرئيس هو أن لدينا إمكانات رائعة ومواهب ومهارات وابتكارات في بريطانيا، لكن ليس لدينا النمو الذي نحتاج إليه، نحن بحاجة إلى خطة للنمو واستراتيجية للنمو”.

على أي حال يظل السؤال الأهم: هل حقيقي أن بولندا ستكون أكثر ثراء من المملكة المتحدة عام 2030، وهل يعني ذلك أن بولندا قد تحل محل بريطانيا في مجموعة السبع التي تقرر إلى حد كبير مسار الاقتصاد العالمي؟

هنا يرى البروفيسور آرثر دين استشاري سابق في الاتحاد الأوروبي، أن تصريحات زعيم المعارضة البريطانية ربما لا تتفق كثيرا مع البيانات المتاحة.

وقال “إن العام الماضي كان ناجحا للاقتصاد البولندي، على الرغم من الحرب في أوكرانيا، فقد واصل الاقتصاد البولندي الانتعاش بعد جائحة كورونا، وكان دعم الازدهار يتم من خلال تحسينات في سلاسل التوريد وتدفق اللاجئين من أوكرانيا، ما رفع من الطلب المحلي وحققت الصناعة وكذلك الصادرات أداء جيدا، لكن في الوقت نفسه فإن الأزمة الاقتصادية الدولية والتضخم المرتفع أديا إلى تباطؤ على مدار العام”.

ويستدرك قائلا “نما الناتج المحلي الإجمالي وفقا للبنك الدولي بنسبة 4.4 في المائة عام 2022، مقارنة بـ6.8 في المائة عام 2021، وهذا يعني نموا بنحو 2 في المائة في الربع الأخير من العام الماضي، وقد خفض البنك الدولي توقعاته لمعدل النمو الاقتصادي في بولندا عام 2023 إلى 0.7 في المائة مقابل توقعات سابقة بزيادة قدرها 3.6 في المائة، كما خفض أيضا توقعاته للنمو لعام 2024 التي لن تزيد على 2.2 في المائة”.

لا شك أن أحد الأسباب الكامنة وراء هذا التباطؤ المتوقع هو النمو الضعيف إلى حد كبير في منطقة اليورو، لكن التراجع المرجح للاقتصاد البولندي لا ينفي أن بولندا حققت قفزات اقتصادية في الأعوام الماضية.

وبينما حققت بريطانيا نموا اقتصاديا ضئيلا لأعوام، تتمتع بولندا منذ فترة طويلة بواحد من أعلى معدلات النمو الاقتصادي في أوروبا، حتى إنها خرجت من جائحة كورونا أفضل حالا من الدول الأوروبية الأخرى، بسبب نهجها المتساهل نسبيا تجاه سياسة الإغلاق، وربما تشير بعض جوانب المقارنة بين بولندا والمملكة المتحدة إلى تفوق بولندا.

وعلى سبيل المثال، معدل وفيات الأمهات في المملكة المتحدة أعلى منه في بولندا، أما معدل وفيات الرضع فهو نفسه تقريبا، واحتل الأطفال في بولندا مرتبة أعلى في التصنيفات التعليمية من الأطفال البريطانيين، اذ يحتل الأطفال البولنديون المرتبة الثالثة في أوروبا في العلوم والرياضيات.

أما نسبة الدين العام البولندي من الناتج المحلي الإجمالي، فهي 46 في المائة فقط، أي أقل من نصف مستوى الدين البريطاني.

ووفقا لبيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية باستخدام نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، فإن مدنا بولندية مثل وارسو وبوزنان وكراكوف وفراتسواف كلها أغنى من ليفربول وبرمنجهام ومانشستر، وارتفع الناتج المحلي لبولندا بأكثر من 150 في المائة منذ سقوط جدار برلين عام 1989 وبدء جائحة كورونا.

أما نمو دخل الفرد فحدث ولا حرج، فبعد انهيار الشيوعية وحالة الفوضى والارتباك التي سادت البلاد انخفض متوسط دخل الفرد في بولندا ليصل إلى ربع نظيره الألماني، واليوم يصل إلى ثلثي متوسط دخل الفرد في منطقة اليورو.

مع هذا يرى الدكتور روي رومان أستاذ الاقتصاد في جامعة لندن، أنه من المبالغ فيه القول إن بولندا ستتفوق على المملكة المتحدة اقتصاديا بحلول عام 2030، وإنها يمكن أن تطيح بها من مجموعة السبع في الأجل المنظور”.

وذكر “نعم بولندا حققت نجاحات اقتصادية لا يمكن انكارها، إذ أدى سقوط الشيوعية إلى إنشاء مؤسسات قوية، وإعادة هيكلة الديون الخارجية، ونظام تعليمي يلبي احتياجات المجتمع، وعملية خصخصة مفتوحة وشفافة، وكل هذا أدى إلى تحسن آفاق الاقتصاد البولندي، إلا أننا نلاحظ أن النمو البولندي يكاد يتباطأ من الآن فصاعدا، وكلما صعدت السلم زادت صعوبة المضي إلى أعلى”.

ويرى الدكتور روي رومان أنه من الإنصاف القول إن بولندا، قد أفلتت بالفعل مما يسمى “فخ الدخل المتوسط”، حيث يتعطل النمو عند مستوى متوسط وتكافح البلاد من أجل الوصول إلى وضع الاقتصاد المتقدم.

ويستدرك قائلا، “بريطانيا عالقة في شباك النمو المنخفض منذ الأزمة المالية العالمية عام 2007، التي مثلت نهاية نموذج نمو معين وبداية فترة ركود لم تخرج منها البلاد حتى الآن، ومع الأسف سرع عام 2022 والحرب الأوكرانية من هذه الاتجاهات، ففي بريطانيا ارتفع التضخم وتراجعت الأجور، مع هذا بريطانيا تمتلك مؤسسات مالية أكثر قوة من بولندا، وخبرات تقنية فريدة من نوعها، وقطاعا خدميا مميزا للغاية، وكل هذا يتطلب عقودا وليس أعواما لامتلاكه”.

لكن بصرف النظر عن قدرة بولندا على أن تتفوق اقتصاديا على المملكة المتحدة بحلول عام 2030، أو أن يكون شعبها أكثر ثراء من البريطانيين، أو أن يتوقف البولنديون عن الهجرة إلى المملكة المتحدة للبحث عن فرصة عمل، وأن نشهد هجرة معاكسة بحيث يملأ العمال البريطانيون شوارع العاصمة وارسو والمدن البولندية الأخرى للبحث عن فرصة عمل وإرسال “اليورو” إلى أسرهم في لندن والمدن الأخرى في المملكة المتحدة.

بعيدا عن هذا كله، فإن ما يجب الإقرار به هو أن بولندا باتت الآن أحد محركات النمو الرئيسة في الاقتصاد الأوروبي ولا يجب الاستهانة بها مطلقا، فإذا أفلحت في زيادة معدلات النمو فستنتقل من المركز الثامن كأكبر اقتصاد أوروبي إلى المرتبة السابعة بحلول عام 2025، وستحقق متوسط دخل فرد يوازي نظيره في إيطاليا وإسبانيا والبرتغال، وستتحول إلى مزود رئيس لأوروبا بالغذاء، ومركز صناعة الدواء أوروبيا، وستكون قادرة على توفير نصف مليون وظيفة عمل في قطاع خدمات الأعمال.

من جانبه، أوضح أريك دين الخبير الاستثماري، “لعقود ظل الاقتصاد البولندي ضمن الاقتصادات الهامشية في القارة الأوروبية، ويستعد الآن ليصبح محرك النمو الأوروبي الجديد، واستندت بولندا بشكل أساسي إلى الصادرات الديناميكية، والطلب الداخلي القوي وتحسين الإنتاجية والاستثمار الأجنبي المباشر وتدفق أموال الاتحاد الأوروبي، وكان هذا النمو مدعوما بالتركيبة السكانية المزدهرة لطفرة المواليد في الثمانينيات ونظام مصرفي مستقر، والآن تغيرت البيئة وتتباطأ بعض الأساسيات بما في ذلك حجم الاستثمار الأجنبي المباشر والإنتاجية السنوية ونمو الصادرات”.

وأضاف “لدى بولندا الفرصة لاتخاذ خيار استراتيجي لتحديد مسار نموها للعقد المقبل، فإما أن تظل اقتصادا متوسط الدخل يركز على أوروبا، أو أن تسعى إلى تسريع وتيرة اللحاق بالاقتصادات المتقدمة وأن تتنافس بنجاح في السوق العالمية”.

ويبدو أن زعيم المعارضة البريطانية يعتقد أن بولندا ستختار الخيار الثاني، الذي يمكن أن ينقل بولندا من اقتصاد “جيد” إلى اقتصاد “عظيم”، لتكون قادرة على أن تتفوق على “بريطانيا العظمى” يوما ما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى