مختارات اقتصادية

دورة الازدهار والكساد: لماذا يصعُب توقع النمو الاقتصادي؟

في كتابه الشهير «التراخي نحو المدينة الفاضلة: تاريخ اقتصادي للقرن العشرين» يقدم «براد ديلونج»، المؤرخ الاقتصادي والأستاذ بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، وصفًا شاملاً ببراعة لتقلبات الاقتصاد العالمي لا سيّما خلال صعوده نحو قرن ونصف من الازدهار.
ويستهل كتابه بالتذكير بأن النمو الاقتصادي هو في الغالب ظاهرة القرن. إذ إنه وفقًا لأفضل تقدير، فإن العالم بين ولادة السيد المسيح وبداية القرن الثامن عشر، ارتفع مستوى معيشة الشخص العادي بنسبة الثلث تقريبًا أي 1.5%- كل 100 عام.
– بعد عام 1750، عندما بدأ الاقتصاد في التوسع بشكل ملحوظ بفضل اختراع المحركات البخارية، ظلت التحسينات في رفاهية الشخص العادي لا تذكر، ونادراً ما تضاعفت على مدى 120 عامًا في نصف العالم الشمالي.
– يجادل «ديلونج» أنه في أواخر القرن التاسع عشر نما الاقتصاد بوتيرة أسرع من السكان -ما سمح بارتفاع مستويات المعيشة بشكل ملموس؛ وزاد إجمالي الناتج الاقتصادي العالمي بمقدار 50 ضعفًا، في 150 عامًا منذ عام 1870.
– يرجح «ديلونج» بأن هذه القفزة النوعية في نمو الإنتاجية نتجت عن 3 تطورات؛ ألا وهي «انتشار البحوث الصناعية، والشراكات الحديثة، والنقل البحري الرخيص نسبيًا»؛ الأمر الذي تمخض عن «الوفرة التكنولوجية» التي جعلت «اقتصاد العالم سوق عالمي واحد».
– بيد أنَّ الكتاب له نظرة متشائمة للمستقبل بشكل خاص. إذ يشير «ديلونج» إلى أنه على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية، توقف نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.
– هذا صحيح بشكل خاص بالنسبة لشمال الكرة الأرضية، ولكنه ينطبق أيضًا بشكل متزايد على الجنوب العالمي، حيث تتباطأ الزيادة في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، على الرغم من أنها لا تزال أعلى مما هي عليه في شمال الكرة الأرضية. – كتب ديلونج أن العالم قد اهتز بسبب موجات من الغضب السياسي والثقافي من جانب الجماهير، وجميعهم منزعجون بطرق مختلفة -ولأسباب مختلفة- من فشل نظام القرن العشرين في العمل لصالحهم كما اعتقدوا.
– لذلك، يخلص إلى أن الظروف التي أدت إلى أكثر من 100 عام من النمو الاستثنائي قد انتهت. – ومع ذلك، فإن التشاؤم قد يكون غير مبرر. إذ إن إحدى الفضائل العظيمة هي الأهمية المركزية التي يوليها ديلونج لدور الفاعلية البشرية في إعادة تشكيل الأحداث السياسية والاقتصادية.
فترات المدّ والجزر:- يمكن تقسيم توسع القرن العشرين في الاقتصاد العالمي إلى أربع موجات كبيرة، بالتناوب فترات من 30 إلى 50 عامًا تسارع خلالها نمو الإنتاجية ثم تباطأ.
– ربما كانت الموجة الأولى من نوعها، من عام 1870 إلى عام 1913، هي الأكثر روعة. في انفصال صارخ عن الماضي، تضاعف الإنتاج الإجمالي في الغرب ثلاث مرات، وتضاعفت مستويات المعيشة.
– لكن ذلك «العصر الذهبي» تحطم مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، التي يرى ديلونج أنها «نتيجة لتشنج جماعي غير عقلاني للقومية».
– في الفترة التي أعقبت الحرب، من عام 1919 إلى عام 1938، تباطأ النمو في قلب الشمال العالمي -كندا وفرنسا وألمانيا واليابان وإيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة- إلى نصف وتيرة الموجة السابقة.
– يرجع الفضل في ذلك -جزئيًا- إلى الكساد الكبير، مما جعل الأمر يبدو كما لو أن الآلة الاقتصادية التي تدعم المؤسسة الغربية بأكملها قد بدأت تتأرجح، وربما تحطمت بشكل لا رجعة فيه. – لكن انتصار الحلفاء كان إيذانا ببدء الموجة الثالثة، التي استمرت من عام 1945 إلى عام 1973. – لقد كانت حقبة ذهبية أخرى، قفز خلالها الاقتصاد العالمي مرة أخرى بوتيرة غير مسبوقة. حيث تضاعف الناتج الاقتصادي أربع مرات تقريبًا، وتضاعفت مستويات المعيشة في دول الشمال المذكورة ثلاث مرات تقريبًا.
– أخيرًا، في عام 1973، وصلت الموجة الأخيرة. وكما هو الحال مع سنوات ما بين الحربين العالميتين، كانت واحدة من فترات التباطؤ. – ارتفع نمو الإنتاجية في شمال الكرة الأرضية من 3% سنويًا إلى نصف ذلك، وبدأ عدم المساواة في الارتفاع مرة أخرى، مع ركود رواتب الطبقتين المتوسطة والعاملة.
– من وجهة نظر ديلونج، كان التباطؤ في الإنتاجية ناتجًا عن الحاجة إلى إعادة تجهيز الاقتصادات المتقدمة، لتكون أكثر كفاءة في استخدام الطاقة بعد القفزة الحادة في أسعار الطاقة. – ولكن، كما يعترف، تظل الأسباب النهائية لهذا التباطؤ الحاد «لغزًا حتى اليوم».
عجلة الحظ
– لم تبدأ الاقتصادات الغربية في الوصول إلى نموذج قادر على تحقيق نمو مرتفع ومشاركة ثمار هذا الازدهار على نطاق أوسع إلا بعد الحرب العالمية الثانية.
– وذلك من خلال الحفاظ على الأسواق، مع توسيع دور الحكومة بشكل كبير في تنظيم الرأسمالية لتجنّب كساد كبير آخر.
– وعندما اندلعت الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وخلافًا لما حدث بعد الكساد الكبير، لم يتبعه صانعو السياسة بإصلاحات على غرار الصفقة الجديدة للحد من تأثير الأسواق.
– بدلاً من ذلك، اتخذت معظم الدول قرارًا محيرًا بالتمسك بالسياسات النيوليبرالية الصديقة للسوق، إلى حد كبير، من وجهة نظر ديلونج، لأن المستفيدين الرئيسيين من النموذج -وهم طبقة الأثرياء – قد هيمنوا على الخطاب السياسي الغربي، خاصة في الولايات المتحدة.
– بيد أنَّ هناك مؤشرات قوية على تراجع احتضان الليبرالية الجديدة؛ من ردود الفعل العنيفة ضد سياسات التجارة الحرة من قبل كل من اليمين القومي، الذي يستاء من صعود الصين، ومن اليسار، الذي يريد تخفيف تأثير التجارة على الطبقة العاملة، والذي أدى بالعديد من الدول الغربية إلى الابتعاد عن تبني الأسواق الحرة غير المنظمة.
– في نهاية المطاف، فإن كتاب «التراخي نحو المدينة الفاضلة» ليس كتابًا توجيهيًا؛ بل هو عمل يجمع بين التاريخ والسرد، مع تسليط الضوء بشكل خاص على الخيارات التي يتخذها الفاعلون السياسيون الرئيسيون في تشكيل مسار المستقبل.
المصدر: مجلة فورين أفيرز (Foreign Affairs)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى