مقالات اقتصادية

نزف الليرة التركية يعظم فرص الإقبال على الذهب

كتب اسامة صالح

بينما يلف مستقبل الليرة التركية غموض مريب، بعد سلسلة طويلة من التراجعات أمام الدولار الأميركي خلال السنوات الأخيرة، فإن التوقعات تؤشر إلى فرص أكبر في المقابل للذهب، على رغم المحاولات الحكومية لإنقاذ العملة التركية من مزيد من التدهور.

بوصفها سوقاً ناشئة ذات دخل أعلى من المتوسط، عرفت تركيا كلاعب رئيس في سوق الذهب العالمية، بحكم ما تتمتع به البلاد من تاريخ طويل من الملكية المحلية للمعدن النفيس، سواء بغرض الاستثمار أو مجوهرات الزينة، ما جعلها خامس أكبر سوق للذهب على مستوى العالم، لكن ما شهدته البلاد في السنوات الأخيرة من تضخم مرتفع وانخفاض متتال في قيمة الليرة دفع نحو تعزيز سلوكها الاستهلاكي للمعدن الأصفر.

واصلت الليرة التراجع، مسجلة أمس الأربعاء، مستوى 27.06 للدولار، وذلك بعد أن أقدم البنك المركزي التركي على زيادة أقل من المتوقع فسعر الفائدة للمرة الثانية على التوالي، إذ زاد “المركزي” تكاليف الاقتراض بمقدار 250 نقطة أساس لتصل إلى 17.5 في المئة، بينما كانت الأسواق تتوقع زيادة بمقدار 500 نقطة أساس، وسط توقعات بوصول أسعار الفائدة إلى 25 في المئة بنهاية العام.

وبينما واصلت الليرة التركية النزف، فإن الإقبال على الذهب ارتفع مع مساعي الأفراد والشركات للتحوط ضد تقلبات سعر الصرف، في وقت تدخلت الحكومة التركية بتدابير عدة لدعم العملة الوطنية، بالحد من الطلب على الذهب وتأثيرات وارداته السلبية على الميزان التجاري للبلاد.

طلب محلي مرتفع

ارتفع الطلب المحلي على الذهب إلى مستويات قياسية في الربع الثاني من العام الحالي، إذ زاد بمقدار خمسة أضعاف إلى نحو 98 طناً، وسجل الطلب ربع السنوي على المجوهرات نمواً مضاعفاً للربع الرابع على التوالي، مرتفعاً بنسبة 23 في المئة على أساس سنوي إلى 10 أطنان، في حين سجل إجمالي النصف الأول 20 طناً، في زيادة بنحو 25 في المئة على أساس سنوي هي الأعلى منذ خمسة أعوام.

بحسب تقديرات مجلس الذهب العالمي، شكل الطلب على المعدن الأصفر من جانب تركيا منذ بداية عام 2020 نحو تسعة في المئة في المتوسط من الإجمالي العالمي، وهي نسبة أكثر من ضعف الأربعة في المئة المحققة سنوياً في الفترة بين 2010 و2020، وهو ارتفاع يعزوه محلل السوق لمنطقة أوروبا وآسيا في مجلس الذهب العالمي، جون ريد، إلى التغيير الكبير في السياسة الاقتصادية للبلاد، إذ بدأت أنقرة اتباع سياسة غير تقليدية مدعومة بإصرار من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وتقضي بخفض أسعار الفائدة على أساس نظرية يتبناها مفادها أن أسعار الفائدة المرتفعة تؤدي إلى تفاقم معدلات التضخم.

وباع “المركزي التركي” 132.2 طن من الذهب في الربع الثاني من العام الحالي، لتصل احتياطات المعدن الأصفر لديه هبوطاً إلى 439.75 طن، بحسب تقديرات أحدث تقرير لمجلس الذهب العالمي، مطلع الشهر الجاري.

محاولات إنقاذ متواضعة

يشير محلل مجلس الذهب العالمي، في مذكرة بحثية، إلى أن البنك المركزي التركي بدأ خفض أسعار الفائدة، وعلى رغم ذلك ارتفع التضخم إلى مستويات قياسية، ومع مزيج أسعار الفائدة المنخفضة والتضخم المرتفع، تراجعت الليرة التركية، فانتقلت من 8.60 إلى 17.15 للدولار الواحد بين سبتمبر (أيلول) وديسمبر (كانون الأول) 2021، وعلى رغم أن تدخل البنك المركزي لتقليص بعض خسائر الليرة لفترة وجيزة، فقد ضعفت مرة أخرى، قبل أن تستقر في منتصف عام 2022، عند 17 ليرة للدولار تقريباً، وظلت لمدة عام تقريباً قريبة من هذا المستوى حتى انتهاء الانتخابات الرئاسية في 28 مايو (أيار) الماضي، قبل أن تهبط الليرة إلى نحو 27 للدولار.

أدى مزيج أسعار الفائدة المنخفضة والتضخم المرتفع إلى انخفاض الليرة التركية، وقاد ذلك إلى زيادة الطلب على الأصول الملموسة كما يقول، جون ريد، ومنها العقارات والسيارات الجديدة والمستعملة والسلع الاستهلاكية المعمرة والذهب، وجميعها شهدت نمواً قوياً في الطلب خلال العام الماضي، لكن رد الفعل في الطلب على الذهب هو الذي أثار الحكومة، كما يقول، إذ كانت الخطوة الأولى من وزارة الخزانة، تعليق واردات الذهب جزئياً في منتصف فبراير (شباط) الماضي بعد الزلزال الذي ضرب شرق البلاد، وتزايد الطلب على الاستثمار وسرعان ما تحول إلى زيادة في علاوة الذهب في بورصة إسطنبول، التي كانت قبل هذه التطورات، تتراوح بين خمسة وسبعة دولارات للأوقية (الأونصة) قبل أن تصل 15 دولاراً.

تدابير حكومية

وشددت الحكومة التركية قيودها المفروضة على واردات الذهب بشكل أكبر حتى أنه بحلول نهاية مارس (آذار) الماضي، سمح فقط بالواردات المطلوبة لإعادة التصدير مما أدى إلى ارتفاع الأقساط، لكن الحكومة لم ترغب في حظر مشتريات الذهب المحلية وسد النقص في الذهب المتاح عن طريق إمدادات البنك المركزي عبر بورصة إسطنبول، وبين مارس ونهاية مايو الماضيين، باع “المركزي التركي” 159 طناً من الذهب عبر البورصة.

يضيف جون ريد، أن الليرة التركية أخذت في التراجع عقب حسم الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية بفوز أردوغان، إذ سجلت في منتصف يونيو (حزيران) الماضي 23.5 للدولار، ثم 26 للدولار بحلول نهاية الشهر نفسه، وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعار الذهب المقوم بالليرة بنسبة 35 في المئة، مما خفض الطلب عليه، ومع أوائل أغسطس (آب) الجاري، تعرضت السوق إلى هزة بسبب تدخل حكومي عبر فرض ضرائب إضافية على واردات الذهب من أجل خفض الطلب المحلي.

وفرضت أنقرة رسوماً إضافية 20 في المئة على واردات المعدن الأصفر من دول لا تجمعها بها اتفاقيات تجارة حرة وليست من بين الدول الأعضاء في منطقة اليورو، وذلك في مسعى للحد من التأثيرات السلبية للواردات على ميزان حسابها الجاري.

وشكل الطلب الاستثماري المتزايد في تركيا 17 في المئة من إجمالي الطلب العالمي على السبائك والجنيهات الذهبية في الربع الثاني من العام، وهو ما ساعد في إخفاء تأثير تباطؤ الطلب من جانب دول مثل ألمانيا، وكانت عمليات الشراء من المؤسسات والشركات مساهماً رئيساً في شراء المعدن في الربع الثاني من العام.

يرى محلل مجلس الذهب العالمي، أن التنبؤ بالاقتصاد التركي أمر صعب ومع ذلك، يعتقد أن تعيين محافظ البنك المركزي الجديد، حفيظة غاي إركان، في يونيو الماضي وضع اقتصاد البلاد على مسار سياسة اقتصادية أكثر تقليدية، إذ تم رفع أسعار الفائدة بسرعة والسماح لليرة بالانخفاض، وفي ظل هذه الخلفية، يرجح محلل مجلس الذهب العالمي، أن يظل طلب تركيا على الذهب قوياً الفترة المقبلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى