مقالات اقتصادية

أكثر مدن الهند ابتكاراً تواجه أزمة مياه

كتب أسامة صالح

فيما كانت أهرامات الجيزة تُشيّد في مصر، برز أحد مهود الحضارة في العالم في وادي السند حيث تقع حالياً حدود باكستان والهند. أنشأت مدن الوادي، المخططة على شكل مربعات، شبكات صرف صحي، وأنتجت أعمالاً فنية دقيقة، ونظاماً للكتابة لم تُفك شفرته. ثم تسبب جفاف استمر 900 عام في دفع السكان بعيداً عن المناطق الحضرية في الوادي، نحو حياة قروية أبسط على سهول نهر الغانج. والآن يحدث أمر يشبه ذلك على نحو قاتم.

الت صحيفة “ديكان هيرالد” (Deccan Herald) في مارس إن العاملين في مجال التقنية يغادرون مدينة بنغالورو، التي تُعتبر مركز تقنية المعلومات في الهند، وسط موجة جفاف متزايدة اجتاحت المدينة، بينما تواجه موجة أخرى من الحر ما قبل موسم الرياح الموسمية. جفت أكثر من نصف الآبار التي تعتمد المدينة عليها لتحصل على المياه الجوفية بعد شح الأمطار العام الماضي، ما دفع الشركات والمواطنين للاعتماد على شاحنات تحمل صهاريج مياه.

أما في ولاية كيرلا المجاورة، التي تحصل على نصيب الأسد من الأمطار الموسمية قبل أن تصل إلى المناطق الداخلية من ولاية كارناتاكا وعاصمتها بنغالورو، كتب أحد الوزراء إلى الشركات في بنغالورو ليقترح عليها أن تنتقل إلى الولاية وذلك لأن “المياه لا تمثل مشكلة إطلاقاً” فيها، وفقاً لتقرير من صحيفة “تايمز أوف إنديا” (Times of India).

مشكلة عالمية

يبدو ذلك في جنوب الهند مفتقراً للذوق، إذ شهدت المنطقة صراعات على توزيع تدفقات الأنهار بين الولايات العطشى لعقود. لكن الوزير ليس مخطئاً. فإن هذه الضغوط ستتنامى فعلاً فيما يزداد التعداد السكاني، ويجعل تغير المناخ دورات الجفاف والأمطار الموسمية أوضح.

هذه ليست مشكلة إقليمية فقط، بل أزمة تواجهها البلاد والعالم بأسره. إن ولايات كارناتاكا وكيرالا وتيلانغانا وتاميل نادو الجنوبية بالكاد تمثل أكثر قليلاً من 15% من تعداد سكان الهند، لكنها تولّد نحو 25% من الناتج المحلي الإجمالي بفضل الأداء القوي في قطاعي التقنية والتصنيع فيهما. يعتمد الاقتصاد العالمي على محرك النمو ذلك ليمسك بزمام الأمور في السنوات المقبلة، فيما يتباطأ نمو الصين متجهاً نحو الركود.

يفتقر جنوب الهند إلى الاحتياطيات الضخمة التي توفرها الثلوج المتراكمة في جبال الهيمالايا في شمال البلاد، ما يجعل نقص المياه أمراً واقعاً. مرّت مدينة تشيناي في ولاية تاميل نادو بأزمة طارئة مماثلة في 2019، فيما تؤثر موجة الجفاف الحالية أيضاً على حيدر آباد، عاصمة التقنية في تيلانغانا.

تنازلات صعبة

السياسات الحالية لا تساعد في تحسين الوضع، كما أن حل المشكلة سيتطلب تقديم تنازلات صعبة في اثنين من أكثر قطاعات الهند حساسية من حيث الجانب السياسي، وهما الزراعة وتوليد الكهرباء.

تستهلك الأسر التي تواجه صعوبات حالياً بسبب القيود المفروضة على المياه نحو 7% فحسب من المياه في الهند. أما الأغلبية العظمى، التي تبلغ 85% أو ما يقرب من ذلك، فتذهب إلى الزراعة.

رغم أن مياه الأمطار لا يمكن ببساطة نقلها من حقول الأرز إلى صنبور المطبخ في مسكن أحد موظفي قطاع التقنية، إلا أن المياه الجوفية التي تنفد في بنغالورو هي جزء من المكامن ذاتها التي تأتي منها المياه الجوفية في المناطق الريفية في نهاية المطاف.

تُعتبر ولايتا كارناتاكا وتاميل نادو اثنتين من أهم ولايات زراعة قصب السكر، وهو محصول معروف بشره شديد للماء. لم تكتف الحكومة بأنها لم تلتفت لكبح هذه النشاط، بل إنها تشجع زراعة القصب عبر تحديد أسعار للمنتج، ومنح إعانات تصدير كانت قد تسببت لنيودلهي بنزاعات استمرت لسنوات في منظمة التجارة العالمية.

ما يستهلك المياه

تنتج الهند حالياً ما يكفي من السكر لتلبية ما يزيد عن ضعفي احتياجات شعبها، كما سيظل الإنتاج أكبر من الطلب حتى العقد الخامس من القرن الحالي، وفقاً لتقرير حديث من مركز الأبحاث الحكومي “نيتي أيوغ” (NITI Aayog).

في تلك الأثناء، قد تستهلك زيادة إنتاج قصب السكر التي تتطلبها سياسة الحكومة المركزية لمزج الإيثانول 348 مليار متر مكعب إضافي من المياه، وفقاً لدراسة نشرت عام 2020، وهو نحو ضِعف ما تستهلكه كل مدن البلاد.

تمثل الكهرباء المولّدة بالفحم مصدراً آخر يستهلك المياه بغزارة، إذ تشفط المولّدات الحرارية مليارات اللترات من مياه الأنهار لتبريد دوائر التوربينات. قد يمثل قطاع الكهرباء أكثر من 25% من استهلاك المناطق الحضرية في كارناتاكا من المياه بحلول 2030، وفقاً لدراسة أُجريت في 2014.

يأتي جانب كبير من استهلاك الكهرباء من القطاع الزراعي، إذ إن ملايين المضخات الكهربائية المتصلة بالشبكات في الهند تزيد من العبء على منظومة الكهرباء، إذ تمثل نحو خُمس استهلاك الكهرباء، زد على ذلك أنها تُضخ من المياه الجوفية.

مخاوف مستقبلية

لا يُرجّح أن السلطات ستتعامل مع هذه المشكلات المستمرة في وقت قريب، في ظل أن البلاد على وشك أن تشهد انتخابات عامة خلال أسابيع. لكنها لا تستطيع أن تتجاهلها. شهدت بنغالورو وحيدر آباد ازدهاراً من خلال اكتسابهما سمعة كاثنتين من أفضل مدن الهند للمحترفين الذين يسعون للتقدم في حياتهم المهنية، إذ تتمتع المدينتان بهواء نظيف ومناخ أكثر اعتدالاً نسبياً.

إذا أدى الفشل المؤسسي إلى تحويل المياه النظيفة في المناطق الحضرية إلى امتياز بدلاً من كونها حقاً، فإن عوامل الجذب في المدينتين ستتضاءل، مما سيبدد منافع التطوير للنمو والتكتل الحضري.

تعتزم الهند أن تفلت من المصير الذي لاقته مدن وادي السند البائدة، وأن تزدهر في هذا العصر المقبل من تغير المناخ. سيتطلب تحقيق ذلك أن تعطي البلاد أولوية لاحتياجات مدنها العطشى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى