مختارات اقتصادية

مايكل باري .. كيف نجح طبيب الأعصاب المهووس بالتحليل في تحقيق الأرباح من أزمات سوق الأسهم؟

على الرغم من أن أسماء مثل “جورج سورس”، و”وارين بافيت” و”جون بولسون” مع غيرهم قد تكون من الأسماء الأكثر شهرة في عالم أسواق الأسهم، بوصفهم بين أنجح المتداولين، إلا أن أسماء أخرى قد لا تكون بنفس الشهرة لكنها حققت نجاحًا كبيرًا دون بلوغ نفس الشهرة.

وعلى سبيل المثال يجيء “مايكل باري” الذي بدأ عمله في أسواق الأسهم على أنه يمارس “هواية”، وذلك إبان دراسته للطب، حيث تخصص في قسم الأعصاب، وكان كما يقول هو نفسه “يسلي وقته” بالاستثمار في سوق الأسهم التي بدأ المعرفة عنها بقراءة كتاب “المستثمر الذكي” لـ”بنجامين جراهام”، وباستخدام ميراثه الصغير عن أهله.

هامش الأمان أولا

واختصارا يقول “باري” أنه طالما اعتمد مبدأ “هامش الأمان” في استثماراته، والذي يعني أن عليه شراء الأصول التي يراها مقدرة بأقل من قيمتها الحقيقية، فهي فقط التي تملك مقومات الزيادة في ظل سوق صاعدة وهي التي ستتجنب الانهيار إذا تراجع السوق بعنف.

وعلى الرغم من أن هذا المبدأ يبدو “سهل القول وصعب الفعل” إلا أن “باري” طبقه بالفعل خلال فترته الأولى، حيث حقق أرباحًا تفوق 50% خلال عامه الأول للتداول وذلك بعمل تحليل وافٍ و”هادئ” (كما وصفه هو حيث أصر على ضرورة التمتع ببرودة أعصاب دائمة في سوق الأسهم).

ونجح أسلوب “باري” في التداول في لفت انتباه كثيرين، بمن فيهم صندوق “فانغارد” الشهير لإدارة الأصول، بسبب عدم تمسكه بالأسهم لفترات طويلة من جهة، وعدم بيعه لها سريعًا أيضا، حيث كان يحتفظ بالأسهم بين 6-18 شهرًا بما لا يجعله مستثمراً تقليدياً ولا مضارباً أيضًا.

وكان “باري” من بين أول من أطلق التحذير من فقاعة “الدوت كوم” من خلال تحليل الشركات ذات القيمة المبالغ فيها والتي لديها القليل من الإيرادات أو الربحية، وبدأ بيع تلك الأسهم على المكشوف على الفور، وسرعان ما حقق أرباحًا غير عادية لمستثمريه.

وحقق باري أرباحًا بنسبة 55٪ في العام الأول للفقاعة (2001) على الرغم من انخفاض مؤشر “ستاندرد أند بورز” بنسبة 12٪ تقريبًا، واستمر السوق في الانخفاض بشكل كبير خلال العامين التاليين، ومع ذلك  استمر صندوق باري للاستثمارات والذي حمل اسم “سيون كابيتال” Scion Capital بين عامي 2000- 2008 في تحقيق الأرباح (وإن كان بنسب أقل) مع استمرار السوق في تكبد الخسائر.

الانطلاقة الأبرز

وعلى الرغم من نجاحه في فقاعة “دوت كوم”، إلا أن “باري” حقق أبرز انطلاقة ولفت إليه الأنظار بشدة ببيعه الأسهم في قطاع العقارات الأمريكية على المكشوف قبل انهيارها في نهاية 2007، وربح 100 مليون دولار بشكل شخصي كما منح المستثمرين الذين منحوه ثقة إدارة أموالهم قرابة 600 مليون دولار، عبر “اقتراض” الأسهم وبيعها مباشرة قبل انخفاضها والرهان على ذلك الانخفاض.

والشاهد أن “باري” كما يصفه المراقبون “مهووس” بالمراقبة والتحليل، فعلى سبيل المثال توقع “باري” أن يتراجع التضخم قبل الربع الأخير من 2023 وهو ما حدث بالفعل، بينما توقع في المقابل أن يؤدي هذا التراجع في التضخم وارتفاع أسعار الفائدة إلى قدر من الركود في السوق الأمريكي والتراجع في أسعار الأسهم.

وعلى الرغم من أن هذا التوقع ليس حصريًا عليه، إلا أن الطريقة التي دعم بها “باري” توقعاته كانت مختلفة، فهو يرى أن الفترة الماضية التي شهدت معدلات تضخم قياسية قد ضغطت على الأسر الأمريكية بشدة واضطرت غالبيتها للجوء لمدخراتها للإنفاق على حاجاتها خلال العامين الماضيين.

غير أنه مع نفاذ مدخرات الأسر الأمريكية بدأ الكثير منها يلجأ للاقتراض (باستخدام بطاقات الدفع بالأساس)، ومع الوقت ينفذ هذا المصدر أيضا ليجد المستهلك نفسه مضطرًا للجوء لتخفيض الإنفاق، لا سيما مع زيادة ديونه، بالتالي يقود ذلك البلد نحو قدر من الركود.

وعلى الرغم من أن هذه هي تقديرات “باري” في عام 2022، إلا أن باكورة تنبؤاته بدأت في الظهور بتراجع التضخم الأمريكي من جهة، والأهم –وما هو خارج الصندوق- وصول الديون الشخصية الخطرة في أمريكا إلى 19 مليار دولار وهي الأعلى منذ 3 أعوام في تأكيد على نظرة “باري” لتطور الوضع الاستهلاكي الأمريكي وتأثيراته اللاحقة على الاقتصاد وسوق الأسهم.

توقعات سابقة مشابهة

وتشبه توقعات “باري” لمستقبل سوق الأسهم الأمريكي الطريقة التي استنبط بها سابقًا تطورات سوق الأسهم الأمريكي وتوقعه لحدوث الأزمة المالية العالمية، حيث يقول إنه لم يكن يتوقع أن يصل الأمر إلى هذا الحد لكنه كان متأكدًا من أن “كارثة تلوح في الأفق”.

ويشير “باري” إلى أنه لاحظ في عام 2003 تخفيف البنوك للقواعد التي تمنح بناء عليها قروض عقارية، حيث تم تخفيض الضمانات والمتطلبات بحدة، حتى إن بعض البنوك باتت تكتفي بـ20% فقط من مستلزمات “الجدارة الائتمانية” التي كانت تطلبها قبل ذلك.

ووفقًا للمعلومات التي جمعها “باري” آنذاك فقد تأكد أن 30-40% ممن يحصلون على قروض لديهم درجة ائتمان أقل من 600 نقطة، وهي درجة لا تسمح لهم بالحصول على كارت ائتمان حتى وليس الحصول على قرض عقاري عالي القيمة، بل وحصل كثيرون على قروض مركبة (أي قرض بضمان حصوله على قرض سابق).

وفي عام 2005 بات “باري” متأكدًا من أن أزمة تمويلية حادة ستظهر عندما تعود معدلات الفائدة على القروض على العقارات إلى معدلاتها السابقة وتعود البنوك “مضطرة” إلى التشديد في منح القروض، وذلك مع بداية ظهور متعثرين كُثر في السداد، وتوقع أن يحدث ذلك في عام 2007، ونصح المستثمرين الذين ائتمنوه على أصولهم بتجنب العقار والبنوك خاصة في تلك المرحلة.

الالتزام بالقواعد النظرية للنجاح

ويصف “مايكل لويس” مؤلف كتاب “the big short” ، والذي تم نشره عام 2015، وتحول لفيلم سينمائي لاحقًا، عن الأزمة المالية العالمية وعن “باري” أيضا، أن الأخير بدا مصدومًا من أن أحدًا من المسؤولين الأمريكيين لم يكن بوسعه رؤية أن أزمة كبيرة جدًا تلوح بالأفق، وينقل عنه قوله إنه إذا كان هو مستثمراً “عادياً” وتمكن من رصد هذه الظاهرة فكيف لا يتمكن المسؤولون الذين يحصلون على كافة المعلومات من استنباط الأزمة مبكرًا أيضًا؟

ويرى “لويس” أن “باري” شديد الالتزام بالقواعد النظرية لسوق الأسهم، ولعل ذلك يظهر حتى وقتنا الحالي في محفظة “باري” في سوق الأسهم، حيث إن 10% من استثماراته في بنك “نيويورك كومينتي” و9% في شركة DJ  الصينية ومثلهم في شركة “سيجنت جولوري” وعدد آخر من الشركات التي يمكن القول إن الغالبية العظمى منها “غير شهيرة” أو “مجهولة”.

وينطبق ذلك مع النصيحة النظرية الشهيرة في سوق الأسهم أنه على المستثمر الذي يرغب في تحقيق نتائج استثنائية أن يبحث عن “أعقاب السجائر” التي يلقيها البعض بلا اهتمام على جوانب الطريق، ويجمعها ويجعل منها قيمة، وهو ما يفعله “باري” بالفعل باختيار أسهم أقل شهرة بكثير لكي يستثمر فيها –بعد دراستها بصورة وافية بالطبع.

وعلى الرغم من إيقاف “باري” لأعمال شركته “سيون كابيتال” عام 2008، إلا أنه ما لبث أن عاد مرة أخرى لسوق صناديق التحوط عبر “سيون اسيست مانيجمنت” عام 2013، وتمكن من تنمية الأصول التي يديرها حتى بلغت  107 مليارات دولار بنهاية الربع الأول لـ2023.

والشاهد أن بعض المستثمرين في الولايات المتحدة قد لا يقبلون على الاستثمار لدى شركة “باري” لكنهم يتبعون محفظته الاستثمارية (ولكن هذا بالطبع يعرضهم لمخاطر فكرة تقليد الاستثمار حيث غالبا ما يكون مستثمر الظل أو المستثمر المقلد عرضة للشراء والبيع المتأخرين بما يتسبب له في خسائر أو يحد من مكاسبه).

ويقول “باري” عن نفسه أنه:

– يبحث عن القيمة في أي مكان وفي كل مكان. قال: “إذا وجدت قيمة فيها، فإنها تصبح مرشحة للانضمام للمحفظة”.

– لا يسمح للتأثيرات الخارجية ومعنويات السوق بالتأثير على اتخاذ قراره، حيث يبني استثماراته على تحليله الأساسي والفني ولا يخشى اتخاذ وجهة نظر معارضة.

– غالبًا ما يستثمر في قطاعات السوق غير المحبذة للمشترين الآخرين، إذ يعتقد أن هذا يسمح له بالشراء في شركات ذات قيمة عالية عندما يكون البيع غير العقلاني في ذروته.

وختامًا، فإن “باري” يتمتع “عمليًا” بما يتحتم أن يتمتع به المستثمر “نظريًا”، من رؤية مختلفة للأمور (تحليله لأسباب أزمة الرهن العقاري وتنبؤه بهبوط السوق الأمريكي مثالًا)، وتمتعه ببرودة أعصاب (رهانه ضد كبار المستثمرين أكثر من مرة)، والأهم عن ذلك جمع المعلومات والتحليل من أجل البحث عن ضالة المستثمرين في سوق الأسهم وخارجها أي “القيمة”.

المصادر: أرقام- بيزنيس انسايدر- فوربس- سيون اسيت مانيجمنت- كتاب “the big short”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى