مقالات اقتصادية

3.5 تريليون دولار من الديون تثقل كاهل العالم

كتب اسامة صالح

أمضت الحكومات والشركات في جميع أنحاء العالم عقوداً في تحميل تريليونات الدولارات من الديون التي ترتفع كلفة فوائدها وتنخفض جنباً إلى جنب مع التضخم، لكن ما كان بمثابة تمويل رخيص عندما كانت الأسعار راكدة سرعان ما أصبح أكثر كلفة.
وبحسب “بنك التسويات الدولية” لدى حكومات العالم 3.5 تريليون دولار من الديون المستحقة المرتبطة بالتضخم في نهاية عام 2022، أي ما يعادل نحو 11 في المئة من إجمالي قروضها.
وبحسب تقديرات وكالة “فيتش للتصنيف الائتماني” سيكون على حكومات العالم دفع ما يقرب من 2.2 تريليون دولار من الفوائد الإجمالية للديون هذا العام، ونمت كلفة الفائدة على “الخزانة الأميركية” بنسبة 25 في المئة لتصل إلى 652 مليار دولار في الأشهر التسعة حتى يونيو (حزيران) الماضي، وأيضاً من المتوقع أن ترتفع فاتورة خدمة الديون في ألمانيا إلى 30 مليار يورو (33.20 مليار دولار) هذا العام، من أربعة مليارات يورو (4.43 مليار دولار) في عام 2021.
الصداع المرتبط بالتضخم
ويعكس الصداع المرتبط بالتضخم صدى التحديات الأوسع نطاقاً التي نشأت في نهاية أكثر من عقد من النقود العالمية السهلة، إذ اقترض المدينون مبالغ ضخمة بأسعار فائدة منخفضة للغاية، وأحياناً سلبية، واليوم المستثمرون في حالة تأهب لمواجهة نقاط الضعف المالية بعد أزمة البنوك الإقليمية الأميركية هذا العام، ومع ظهور ضغوط في العقارات التجارية.
وارتفعت كلفة الاقتراض من جميع الأنواع بشكل حاد بالنسبة إلى الحكومات والشركات والمستهلكين، إذ قامت البنوك المركزية برفع أسعار الفائدة الرئيسة لمكافحة ضغوط الأسعار، كما ارتفعت معدلات الاقتراض المرتبط بالتضخم، لكن هذه ليست المصدر الوحيد للألم، فعندما تنضج السندات القياسية ذات الأسعار الثابتة، يجب استبدال ديون جديدة بها أكثر كلفة، وفي الوقت نفسه غالباً ما تكون أسعار الفائدة على القروض عائمة، مما يعني أنها تعكس بسرعة التغيرات في أسعار السياسة.
وارتفعت عوائد السندات القياسية ذات معدل الفائدة الثابت لمدة 10 سنوات – في مؤشر إلى كلفة الاقتراض الحكومي – إلى نحو 4.3 في المئة في المملكة المتحدة و3.9 في المئة للولايات المتحدة، وكان كلاهما أقل من واحد في المئة خلال الوباء.
التضخم متأصل في الاقتصاد البريطاني
تشهد بريطانيا اليوم أسرع ارتفاع في كلفة الديون في مجموعة الدول السبع الديمقراطيات المتقدمة، وكانت المملكة المتحدة قد احتضنت لأول مرة مثل هذه الديون في عهد رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر، وفي عام 1981 أصبحت واحداً من أوائل الاقتصادات المتقدمة التي تصدر ديوناً مرتبطة بالتضخم بما فيها سنداتها الحكومية المعروفة باسم (linkers)، وأوراق الخزانة المحمية من التضخم (TIPS)، وفي الولايات المتحدة، كل المبالغ المستحقة للمستثمرين بمجرد استحقاق السندات ومدفوعات الفائدة المنتظمة التي يتلقونها تتحرك مع التضخم.
نحو ربع ديون المملكة المتحدة مرتبط الآن بالتضخم، متخلفة بذلك عن حفنة فقط من الأسواق الناشئة التي لها تاريخ من الأسعار الجامحة مثل أوروغواي والبرازيل وتشيلي.
وينظر اليوم لمشكلات ديون المملكة المتحدة بكونها معقدة بسبب اعتمادها الطويل الأمد على مقياس الزيادات في الأسعار الذي لم يعد محبوباً وهو مؤشر أسعار التجزئة أو (RPI)، إذ يرتبط هذا المقياس بنحو 600 مليار جنيه استرليني (778.3 مليار دولار)، من السندات التي ارتفعت باستمرار أسرع من مؤشرات أسعار المستهلك المستخدمة على نطاق واسع، في حين كانت لندن قد تعهدت بالتخلص التدريجي من مؤشر أسعار التجزئة بحلول عام 2030.
وبلغ التضخم وفقاً لمؤشر أسعار التجزئة 14 في المئة في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وظل 11 في المئة في يونيو الماضي مقارنة بالعام السابق، في حين يتوقع الاقتصاديون أن يستمر التضخم في المملكة المتحدة في الانخفاض هذا العام، وإن كان ذلك أبطأ من الاقتصادات الكبرى الأخرى.
من الناحية النظرية، يجب موازنة مدفوعات الفائدة المرتفعة بزيادة الإيرادات، في حين أن التضخم المرتفع يعني مدفوعات أكبر لحاملي السندات، إلا أنه ينبغي أيضاً أن يجلب مزيداً من الضرائب.
هذا المنطق ينطبق بشكل خاص على أسواق مثل المملكة المتحدة، حيث إن مقاييس التضخم متأصلة بعمق في الاقتصاد، في حين أنه غالباً ما ترتبط الضرائب ومدفوعات المعاشات والرفاهية وأسعار القطارات وفواتير الهاتف المحمول بمؤشرات الأسعار، لكن صدمة الطاقة التي غذت التضخم الأخير قلبت تلك الرياضيات رأساً على عقب، إذ أدت فواتير الطاقة المرتفعة إلى ارتفاع مؤشر أسعار التجزئة حتى مع تراجع الأرباح والإنفاق الاستهلاكي. وقال مكتب المملكة المتحدة لمسؤولية الميزانية هذا الشهر إن “المملكة المتحدة تشهد نوعاً خاطئاً من التضخم. حساسية ديون المملكة المتحدة للتضخم غير مسبوقة”.
استدامة الديون في بريطانيا
في حين تعد استدامة الديون في المملكة المتحدة محط تركيز المستثمرين بعد انهيار السوق في الخريف الماضي، إثر خطط خفض الضرائب لرئيسة الوزراء آنذاك ليز تراس، يسعى خليفتها ريشي سوناك ووزير خزانته جيريمي هانت إلى استعادة ثقة السوق من خلال تعهدات باحتواء التضخم وخفض الديون، إلا أنه ومع ارتفاع كلفة الفائدة في المملكة المتحدة، ومع تجاوز الديون الآن 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أصبح الوفاء بهذه الوعود أكثر صعوبة مع الحفاظ على ثقة المستثمرين.
كما يقوض عبء الديون آمال سوناك في اجتذاب الناخبين وإنعاش الاقتصاد بتخفيضات ضريبية وإجراءات إنفاق قبل الانتخابات العامة المتوقع إجراؤها العام المقبل.
من المتوقع أن تضيف عوائد السندات المرتفعة والتضخم الأكثر ثباتاً 30 مليار جنيه استرليني (38.6 مليار دولار) إضافية إلى فاتورة الديون الحكومية السنوية في المملكة المتحدة، وفقاً لتقديرات المتخصص في الشأن الاقتصادي بـ”بنك أوف أميركا”، روبرت وود.

وقال وود “أمام الحكومة ثلاثة خيارات، فيمكنها التخطيط لإنفاق أضعف، أو زيادة الضرائب، أو يمكنك الاقتراض أكثر”. وأضاف “بالتأكيد يمكن للمرء أن يقول إن هذا الارتفاع في كلفة فوائد الديون لا يتوافق مع خفض الضرائب”.
وتبيع المملكة المتحدة عدداً أقل من سنداتها الحكومية المعروفة باسم (linkers)، والتي من المرجح أن تشكل 11 في المئة من إصدارات السندات هذه السنة المالية، بانخفاض عن 20 في المئة خلال 2010.
وقال أحد المصرفيين المركزيين في المملكة المتحدة إن “السندات الحكومية قامت بعملها إلى حد كبير كما كان متصوراً في الثمانينيات، لقد كنا على وشك الخروج من عقد كان فيه التضخم مرتفعاً للغاية”. كما قال تشارلز جودهارت، الذي كان مستشاراً في “بنك إنجلترا” بين عامي 1969 و1985، “كان الناس متشككين للغاية في شأن قدرة أي حكومة، ولا سيما حكومة المحافظين، على خفض التضخم إلى معدل منخفض ومستقر”.
وأشار جودهارت إلى أن المخاوف من أن تؤدي السندات الحكومية إلى دوامات جديدة في الأجور وأسعار الأجور، إذ طالبت النقابات آنذاك بزيادات مرتبطة بالتضخم، ولم تنجح.
واليوم تشعر الشركات بضغوط الاقتراض المرتبط بالتضخم، إذ كادت أكبر شركة مياه في المملكة المتحدة، “ثيمز ووتر”، أن تنهار في الأسابيع الأخيرة بعدما شكك المستثمرون في قدرتها على سداد ديون بقيمة 14 مليار جنيه استرليني (18 مليار دولار)، نصفها تقريباً مرتبط بالتضخم.
وترتبط ديون “ثيمز ووتر” بمؤشر أسعار التجزئة (RPI)، لكن أسعار العملاء تتبع الآن مؤشر أسعار المستهلك، الذي يتخلف عن مؤشر أسعار المستهلك بنحو ثلاث نقاط مئوية بشكل أبطأ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى